ذكر ابن جرير الطبري في تفسيره عند قوله ـ تعالى: “وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو”، عن بعض أهل التأويل أن هذه المفاتيح خمسة، وأن الله ـ عز وجل ـ ذكرها مفصلة في آية أخرى هي قوله ـ عز وجل: “إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” (لقمان: آية).
فالساعة سواء أكانت ساعة كل إنسان بموته، أم الساعة التي يقوم الناس على أثرها لله رب العالمين مما استأثر الله ـ عز وجل ـ بعلمه. قال الله ـ تعالى: “إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى” (طه: آية 15)، وقال: “.يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ” (الأعراف: آية 187).
وإنزال الغيث أي المطر الذي هو أساس الحياة، للإنسان والحيوان، والنبات، لا يعلم مقداره، ولا زمان نزوله، ولا مكانه بالتفصيل إلا المولى ـ عز وجل.
ويعلم ما في الأرحام، أرحام النساء، والحيوانات، والنباتات، علماً دقيقاً شاملاً إلا الله عز وجل.
وكذلك ما ستفعله الخلائق في مستقبل حياتها. وأن تنتهي حياة كل منهم، وكيفية ذلك؟
فهذه الأمور الخمسة لا يعلمها إلا الله ـ عز وجل، وهي أسس كل غيب ومفاتحه.
وعلم الله ـ عز وجل ـ لهذه المفاتيح الخمسة وغيرها علم قديم، تنكشف به حقائق هذه الأشياء في الأزل، وهذا العلم الإلهي يختلف كل الاختلاف عن علم البشر الجزئي المحدود؛ ولذلك فإننا لو تأملنا بقية آية مفاتح الغيب لوجدناها تشير إلى هذا العلم الشامل الدقيق قال الله تعالى: “وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ” (الأنعام: آية 59).
والغرض من ذكر هذه الآية أن يخلص الإنسان في عبوديته لله، وأن يسلم الأمر كله لله، وأن يرضى بقضائه وقدره، وأن يأخذ بالأسباب التي وضعها في كونه، ويترك أمر النتائج إليه.
والغرض من إخفاء العلم بهذه المفاتيح عن الإنسان مصلحة، وذلك ليعمل ويكد ويعمر الأرض دون يأس أو ملل، مع التوكل على الله، وتفويض الأمر إليه؛ رجاء ثوابه، وخوف عقابه.
والله تعالى أعلم.