لم يفرق الإسلام بين الرجل والمرأة في طلب العلم، ولم يشترط أحد الذكورة في المفتي، فقولة الحق تقبل ممن جاء بها، وقد وجد في هذه الأمة نساء تصدين للإفتاء على رأسهن أم المؤمنين عائشة، فالفتوى هي إخبار بالحكم الشرعي والمرأة صالحة لأن تخبر عنه.
يقول الشيخ محمد صالح المنجد:
بعث الله تعالى رسولَه بالهدى ودين الحق، ليكون للعالَمين بشيراً ونذيراً، وقد أدَّى النبي ﷺ الأمانة، وبلَّغ الرسالة، وكان ممن سمع منه ﷺ نساء ورجال، وهكذا قام من بعده بوظيفة التبليغ والتعليم الصحابة، ومن بعدهم، وكان في تلامذتهم نساء ورجال، وقد كانت الأمور منضبطة بضابط الشرع في أمور التعلم والتعليم، بعيدة عن الاختلاط المحرَّم، وكشف المرأة وجهها، والخضوع في القول.
والإسلام لا يفرِّق بين الرجال والنساء في العلم والفتيا، وقد نصَّ أهل العلم على شروط المفتي، ولم يذكروا من الشروط : الذكورة، ولا يُعرف في هذا خلاف بينهم.
قال النووي رحمه الله :
“شرط المفتى : كونه مكلفاً، مسلماً، ثقةً، مأموناً، متنزهاً عن أسباب الفسق، وخوارم المروءة، فقيه النفس، سليم الذهن، رصين الفكر، صحيح التصرف، والاستنباط، متيقظاً، سواء فيه الحر، والعبد، والمرأة، والأعمى، والأخرس إذا كتب، أو فُهمت إشارته” انتهى. “المجموع شرح المهذب”
وقد كان في هذه الأمة العظيمة من قام بواجب التعليم والفتيا من النساء، كما قام به من الرجال.
نعم، إن عدد النساء لا يمكن مقارنته بالرجال بسبب طبيعة الرجل، لكن هذا لم يمنع من وجود نساء يقمن بمهمة التعليم، والفتيا، وعلى رأس أولئك النساء : أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وقد كانت مقصد الرجال والنساء في الفتيا ؛ بسبب قربها من النبي ﷺ، وذكائها، وفطنتها.
قال ابن عبد البر في “الاستيعاب” :
عن مسروق قال : رأيت مشيخةً من أصحاب رسول الله ﷺ الأكابر يسألونها عن الفرائض.
وقال عطاء بن أبي رباح : كانت عائشة أفقه الناس، وأعلم الناس، وأحسن الناس رأياً في العامة.
وقال هشام بن عروة عن أبيه : ما رأيت أحداً أعلم بفقه، ولا بطب، ولا بشعْر من عائشة.
وقال الزهري : لو جُمع عِلْم عائشة إلى عِلْم جميع أزواج النبي ﷺ، وعِلم جميع النساء : لكان عِلم عائشة أفضل” انتهى.
وقد عدَّ ابن القيم رحمه الله المكثرين من الفتيا من الصحابة، وذكر منهم عائشة رضي الله عنها، وعدَّ أم سلمة رضي الله عنها من المتوسطين، وجعل أم عطية، وصفية أم المؤمنين، وحفصة، وأم حبيبة، من المقلِّين في الفتيا.
انظر : “إعلام الموقعين”.
ونحن نسوق هنا بعض من وصفهن الإمام الذهبي رحمه الله بالعلم والفقه في كتابه “سيَر أعلام النبلاء”، توكيداً لما ذكرناه :
1. صفية بنت شيبة.
قال الذهبي رحمه الله :
صفية بنت شيبة بن عثمان بن أبي طلحة، الفقيهة، العالمة..
2. أم الدرداء.
قال الذهبي رحمه الله :
أم الدرداء، السيدة، العالمة، الفقيهة، وهي أم الدرداء الصغرى.
روت علماً جمّاً عن زوجها أبي الدرداء، وعن سلمان الفارسي، وكعب بن عاصم الأشعري، وعائشة، وأبي هريرة، وطائفة.
وعرضت القرآن وهي صغيرة على أبي الدرداء.
وطال عمرها، واشتهرت بالعلم، والعمل، والزهد.
قال مكحول : كانت أم الدرداء فقيهة.
3. معاذة العدوية (ت 83 هـ).
قال الذهبي رحمه الله :
معاذة بنت عبد الله، السيدة، العالمة، أم الصهباء العدوية البصرية، العابدة، زوجة السيد القدوة صلة بن أشيم.
روت عن علي بن أبي طالب، وعائشة، وهشام بن عامر.
4. بنت المحاملي (ت 377 هـ).
قال الذهبي رحمه الله :
العالمة، الفقيهة، المفتية، أمة الواحد بنت الحسين بن إسماعيل.
تفقهت بأبيها، وروت عنه، وعن إسماعيل الوراق، وعبد الغافر الحمصي، وحفظت القرآن، والفقه للشافعي، وأتقنت الفرائض، والعربية، وغير ذلك.
قال البرقاني : كانت تفتي مع أبي علي بن أبي هريرة.
وقال غيره : كانت من أحفظ الناس للفقه.
5. كريمة بنت أحمد بن محمد بن حاتم أم الكرام المرزوية (ت 463 هـ).
قال الذهبي رحمه الله :
الشيخة، العالمة، الفاضلة، المسندة، أم الكرام.
6. عائشة بنت حسن بن إبراهيم (ت 460 هـ).
قال الذهبي رحمه الله :
الواعظة، العالمة، المسندة، أم الفتح الاصبهانية، الوركانية.
قال ابن السمعاني : سألت الحافظ إسماعيل عنها، فقال : امرأة صالحة، عالمة، تعظ النساء.
7. فاطمة الدقَّاق (ت480 هـ).
قال الذهبي رحمه الله :
فاطمة بنت الأستاذ الزاهد أبي علي، الحسن بن علي الدقاق، الشيخة، العابدة، العالمة، أم البنين، النيسابورية، أهل الأستاذ أبي القاسم القشيري، وأم أولاده.
8. بنت زعبل (ت532 هـ).
قال الذهبي رحمه الله :
الشيخة، العالمة، المقرئة، الصالحة، المعمرة، مسندة نيسابور، أم الخير، فاطمة بنت علي بن مظفر بن الحسن بن زعبل بن عجلان البغدادي، ثم النيسابورية.
9. فاطمة بنت البغدادي (ت539 هـ).
قال الذهبي رحمه الله :
الشيخة، العالمة، الواعظة، الصالحة، المعمرة، مسندة أصبهان، أم البهاء، فاطمة بنت محمد بن أبي سعد أحمد بن الحسن بن علي بن البغدادي الأصبهاني.أهـ
فهذه طائفة من نساء فاضلات، عالمات، مفتيات، ولا يمنع الإسلام أحداً من أهل العلم، رجلاً كان أم امرأة أن يفتي، ويعلم الناس دين الله تعالى.نساء
وينبغي التنبيه إلى أن هناك فرقاً بين الفتوى والقضاء، فالفتوى هي الإخبار بالحكم الشرعي، وهذا لا يُمنع منه أحد، إذا كان أهلاً لذلك، أما القضاء فقد دلت الأدلة الشرعية، وجرى عليه عمل الأمة الإسلامية أن المرأة لا تتولى القضاء.