النبي ـ ﷺ ـ على أعلى درجة من الكمال في فِكْرِه وسلوكه، وكذلك الأنبياء والمرسلون قد اصطفاهم الله واختارهم من خلقه ليكونوا دُعاة لهم إلى الخير ومُبَلِّغين عن الله رسالاته، وقد مدح الله سبحانه نبيه محمدًا ـ ﷺ ـ بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلَي خُلُقٍ عَظِيمٍ) وقد دعا ربه بقوله: “اللَّهُمَّ كما حَسِّنت خَلْقِي فَحَسِّنْ خُلُقِي”.
ومن أخلاقه الحسنة عِفة اللسان ونزاهة القول وطهارته، وبخاصة في مخاطبته للناس وتعامله معهم، وذلك نابع من صفاء قلبه وامتلائه بالرحمة وحُسْن ذوْقه وأدبه، وقد التزم ذلك السلوك حتى مع أعدائه، وفي أحرج الأوقات، فلما شُجَّ وجهه في غزوْة أُحُد، وشَقَّ على أصحابه ذلك وقالوا: لو دعوتَ عليهم، قال: “لم أبْعَث لعَّانًا، ولكنِّي بُعِثْتُ داعيًا ورحمة، اللهُمَّ اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون”.
وقد صحَّ في البخاري أنه ـ ﷺ ـ لم يكن فاحشًا ولا مُتفحشًا، وفي رواية: لم يكن سبَّابًا ولا فاحشًا ولا لعَّانًا.
والفُحش هو كل ما خرج عن حَده حتى يُستقبح، وهو يدخل في القوْل والعمل والصِّفة، لكن استعماله في القول أكثر، والمُتَفَحِّش هو الذي يتعمَّد ذلك ويكثر منه ويتكلَّفه، واللَّعن هو الطرد من رحمة الله.
وقد حدث كما في رواية البخاري أن رجلاً استأذن عليه ـ ﷺ ـ فلما رآه قال “بئسَ أخو العَشيرة” أو بئس ابن العشيرة، فلما جلس تطلَّق في وجهه وانبسط إليه، فلما انطلق الرجل سألت عائشة ـ رضي الله عنها ـ عن سر ذَمِّه ثم الانبساط إليه، فقال: “متى عهدتني فحاشًا، إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاءَ شره.
وذلك الرجل هو عُيينة بن حِصن الفَزاري الذي يُطلق عليه الأحمق المُطاع، ولم يكن قد أسلم، أو كان إسلامه ضعيفًا، وتألَّفه بهذه المعاملة ليُسْلِم قومه.
وهذا القول من النبي ـ ﷺ ـ ليس غِيبة، بل هو بيان لحقيقة الرجل حتى يُعامل على أساسها، فهو من باب النُّصح للناس وإرشادهم إلى الخير، وفعله هذا يُعد من باب المُداراة في معاملة الناس ، وهي بذل الدنيا لصلاح الدين أو الدنيا، ولا شيء في ذلك، بخلاف المُداهنة، وهي بذل الدين لصلاح الدنيا فهي مذمومة؛ لأنها صفة المنافقين أو الكافرين.