فظاهر الأدلة يوجب على الرجل اعتزال زوجته في موضع الحيض فقط ، والإجماع على حرمة الوطء أثناء الحيض، وقد دل النص والإجماع أيضا على جواز الاستمتاع بما عدا منطقة الإزار من دون حائل، واختلف العلماء في جواز مباشرة منطقة الإزار من دون حائل في وقت الحيض، من غير وطء فأجازه بعضهم ومنعه البعض، وتوسط فيه آخرون فقالوا بالحرمة عند الخوف من غلبة الشهوة والوقوع في الوطء، والجوازُ عند الأمن من ذلك.
يقول الشيخ محمد عدود: فالأصل في المعاشرة الزوجية في حال الحيض هو قول الله تعالى: “وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ” (البقرة:222)، ولفظ “المحيض” يصدق على زمان الحيض، وعلى مكانه الذي هو الفرج، وعلى الحيض نفسه، وظاهر التعليل الوارد في الآية (هو أذىً) يقتضي كون الاعتزال المأمور به مقتصراً على مكان الحيض فقط، الذي هو الفرج، وهذا ما دلَّ عليه فعل النبي -ﷺ- .
فقد ثبت عن أم سلمة -رضي الله عنها- أنها قالت: بينا أنا مع النبي -ﷺ- مضطجعة في خميصة إذ حضت، فانسللت، فأخذت ثياب حيضتي. قال: “أنفست”؟ قلت: نعم. فدعاني فاضطجعت معه في الخميلة. أخرجه البخاري (294)، ومسلم (296).
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كنت أغتسل أنا والنبي -ﷺ- من إناء واحد كلانا جنب، وكان يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض. أخرجه البخاري (295).
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كانت إحدانا إذا كانت حائضا فأراد رسول الله ﷺ أن يباشرها أمرها أن تتزر في فور حيضتها ثم يباشرها. قالت: وأيكم يملك إربه كما كان النبي ﷺ يملك. أخرجه البخاري (296)، ومسلم (293) .
وعن ميمونة –رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله ﷺ إذا أراد أن يباشر امرأة من نسائه أمرها فاتزرت وهي حائض. أخرجه البخاري (297)، ومسلم (294). زاد ابن حبان وأصحاب السنن في حديث ميمونة –رضي الله عنها-: في صفة أو مقدار الإزار– “… إلى أنصاف الفخذين أو الركبتين، تحتجز به” أخرجه ابن حبان في صحيحه (1365)، وأبو داوود (267)، والنسائي (287) وغيرهم.
ومعلوم من دلالة الآية السابقة وغيرها من السنة والإجماع أن الوطء بمعنى (الإيلاج) حرام في أثناء الحيض، وقد دل النص والإجماع –أيضا– على جواز الاستمتاع بما عدا منطقة الإزار (فوق السرة ودون الركبة) من دون حائل، واختلف العلماء في جواز مباشرة منطقة الإزار(فوق السرة ودون الركبة) من دون حائل في وقت الحيض، من غير وطء، على ثلاثة أقوال:
القول الأول:عدم جواز المباشرة من غير حائل (إزار)، وعلى هذا القول أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، والأوزاعي، وأبو يوسف، وجماعة عظيمة من العلماء.
وقد استدلوا بأدلة، منها:
1. ما رواه مالك في الموطأ (124)، ومن طريقه الدارمي (1014)، مرسلاً أن رجلاً سأل رسول الله –ﷺ-: ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ فقال رسول الله ﷺ: “لتشد عليها إزارها، ثم شأنَك بأعلاها”.
2. ومنها: الأحاديث السابقة من رواية أمهات المؤمنين رضي الله عنهن.
وقد ردَّ ابن دقيق العيد على الاستدلال بأحاديث أمهات المؤمنين رضي الله عنهن بأنها ليس فيها ما يقتضي منع ما تحت الإزار؛ لأنها تحكي فعلاً مجرداً.
القول الثاني: جواز الاستمتاع بما عدا الفرج؛ وبعضهم قال: إذا تجنب موضع الدم، وبعضهم قال: إذا وضعت على فرجها ثوباً ، وإلى هذا القول ذهب كثير من السلف كالثوري وأحمد وإسحاق، وبه قال محمد بن الحسن من الحنفية، ورجَّحه الطحاوي منهم، وهو اختيار أصبغ من المالكية، وأحد القولين أو الوجهين للشافعية، واختاره ابن المنذر، وقال النووي: هو الأرجح دليلا.
وقد استدلوا بأدلة، منها:
1. قوله عليه الصلاة والسلام: “اصنعوا كل شيء إلا النكاح”. أخرجه مسلم (302).
2. ما ورد عن بعض أزواج النبي ﷺ أنه كان إذا أراد من الحائض شيئاً ألقى على فرجها ثوباً. رواه أبو داود (272) بإسناد قوي.
3. واستدل الطحاوي على الجواز بأن المباشرة تحت الإزار دون الفرج لا توجب حدًّا ولا غسلا فأشبهت المباشرة فوق الإزار، وحملوا أحاديث الباب على الاستحباب جمعاً بين الأدلة.
القول الثالث: التفصيل، فإن كان الزوج يضبط نفسه – عند المباشرة – عن الفرج، ويثق منها (من نفسه) باجتنابه جازت له المباشرة من تحت الإزار، وإلا فلا. وبهذا يقول بعض الشافعية، واستحسنه النووي.
والخلاصة من كل ما سبق:
أن جسم الزوجة في حالة الحيض –بالنسبة لجواز الاستمتاع به– ينقسم إلى منطقتين:-
1. منطقة ما فوق السرة، وما تحت الركبة، وهذه يجوز للزوج أن يباشرها كيفما شاء بلا خلاف، فحرية الزوجين فيها غير مقيدة إلا بالتستر عن أعين الآخرين.
2. ما بين سرة الزوجة وركبتها، وهذه على التفصيل الآتي:-
أ- يحرم الوطء (الإيلاج في الفرج) بلا خلاف.
ب- تجوز المباشرة من فوق الإزار بلا خلاف.
ج- أما المباشرة من دون حائل والمفاخذة، فقد اختلف العلماء في جوازها.
والذي يقتضيه النظر: هو الحرمةعند الخوف من غلبة الشهوة والوقوع في الوطء؛ سدًّا لذريعة الوقوع فيما هو محرم بالإجماع، والجوازُعند الأمن من ذلك، إذا كان الفرج مستوراً بما جرت العادة به من الفوط، والسراويل القصيرة ونحوها، مع الاحتياط والحذر من تحول الشهوة إلى حسرة ومرض في الدنيا، وإثم وعذاب في الآخرة، ولا شك أن الأولى والأحوط هو ما كان النبي –ﷺ- يفعله مع زوجاته كما سبقت الإشارة إليه.