ثبت في هدي رسول الله -ﷺ- قوله: “آتي الحوض، فأرى أناسًا من أمتي يحودون عن الحوض كما يحود البعير الأجرب، فأقول: يا رب أمتي أمتي، فيقال لي: يا محمد إنك لا تدري ما أحدثوه بعدك فأقول، سحقًا سحقًا”، أي بعدًا لكم بُعدًا بعدًا، وفي الحديث إشارة إلى أن النبي -عليه الصلاة والسلام-، عرَّفهم بأنهم من أمته، ثم الإخبار بأنهم أحدثوا من المخالفة ما استحقوا به البُعْد عن حوضه، وذلك باقتراف الكبائر أو النقص في أمر العقيدة من اليقين بحقائق الإيمان ما استحقوا به ذلك البعد، وأما الصغائر فإن الله عز وجل يتجاوز عنها بما يحدثه العبد من طاعات كالصلاة أو العمل الصالح قال تعالى:”إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَات”، فعلى هذا فإن العصاة ممن ذكرنا آنفًا محرومون من أن يردوا حوض رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، ولعلهم إذا ما طهروا باستيفاء عقوباتهم أن يكونوا أهلاً بعد ذلك بالشرب من حوضه -عليه الصلاة والسلام-.
من الذي يرد حوض النبي ﷺ
يجب الإيمان بأن لكل نبي حوضًا يرده الطائعون من أمته، وأن حوض النبي ﷺ أكبرها وأعظمها،
يرده الأخيار، وهم المؤمنون بالنبي ﷺ الآخذون بسنته ، وسنة الخلفاء الراشدين المهدين. ويطرد عنه الكفار والمبتدعة ، الآخذون بالتحسين والتقبيح العقليين ، وكل من تعامل بالربا أو جار في الأحكام أو أعان ظالمًا ، أو جاوز حدًا من حدود الله تعالى.
صفة حوض النبي ﷺ
ما ذكر ثابت بأحاديث مشهورة تفيد التواتر المعنوي، منها: حديث سمرة بن جندب قال: قال رسول الله ﷺ : “إن لكل نبي حوضًا وإنهم يتباهون أيهم أكثر واردة ، وإني أرجو أن أكون أكثرهم واردة ” (أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن غريب)
وحدث ابن عمرو أن النبي ﷺ قال: “حوضي مسيرة شهر ، وزواياه سواء ، وماؤه أبيض من اللبن ، وريحه أطيب من ريح المسك ، وكيزانه كنجوم السماء ، من يشرب منه فلا يظمأ أبدًا ” (أخرجه الشيخان)
وقال أنس رضي الله عنه: ” بينما رسول الله ﷺ في المسجد إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه ضاحكًا ، فقيل: ما أضحكك يا رسول الله ؟
قال: نزلت علي سورة آنفًا ، فقرأ: ” بسم الله الرحمن الرحيم ، إنا أعطيناك الكوثر” حتى ختمها قال: أتدرون ما الكوثر؟ قلنا: الله ورسوله أعلم.
قال: إنه نهر وعدنيه ربي عز وجل عليه خير كثير، وهو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة ، آنيته عدد نجوم السماء فيختلج العبد منهم فأقول: ربي إنه من أمتي فيقول: ما تدري ما أحدث بعدك. (أخرجه أحمد والخمسة)
وقد اختلف في موضع الحوض من الصراط قبله أو بعده ، فصحح الإمام حجة الإسلام الغزالي أن الحوض قبل الصراط، وكذا القرطبي وقال: المعنى يقتضيه، فإن الناس يخرجون من قبورهم عطاشًا فناسب تقديم الحوض، وأيضاً فإنه من جاز الصراط لا يتأتى طرده عن الحوض فقد كملت نجاته.
ورجح القاضي عياض أنه يكون بعد الصراط وأن الشرب منه يقع بعد الحساب والنجاة من النار، ويؤديه من جهة المعنى أن الصراط يسقط منه من يسقط من المؤمنين ويخدش فيه من يخدش، ووقوع ذلك للمؤمن بعد شربه من الحوض بعيد فناسب تقديم الصراط حتى إذا خلص من خلص شرب من الحوض.
وقيل: يشهد له ما تقدم من أن للحوض ميزابين يصبان فيه من الكوثر ولو كان قبل الصراط لحالت النار بينه وبين وصول ماء الكوثر إليه ولكن وصول ذلك ممكن، والله على كل شيء قدير.
ويمكن الجمع بأن يكون الشرب من الحوض قبل الصراط لقوم ، وبعده لآخرين بحسب ما عليهم من الذنوب حتى يهذبوا منها على الصراط.
هذا، ولو يقيم دليل صريح على شيء مما ذكر في موضع الحوض ، فالواجب اعتقاده هو أن النبي ﷺ حوضًا تعدد أو اتحد ، تقدم على الصراط أو تأخر، ولا يضرنا جهل ذلك، وقد جاء في رواية لأحمد عن الحسن عن أنس أن فيه من الأباريق أكثر من عدد نجوم السماء. وهذا إشارة إلى غاية الكثرة.
طوله مسيرة شهر، مربع الشكل، له ميزابان يصبان فيه من الكوثر، ماؤه أشد بياضًا من اللبن وأحلى من العسل، كيزانه أكثر من نجوم السماء، من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبدًا ظمأ ألم، ولو دخل النار يعذب بغير العطش، ويكون شربه منه أو من غيره ـ كالتسنيم ـ بعد ذلك لمجرد اللذة .
فاللهم اسقنا من حوض نبيك محمد عليه الصلاة والسلام .
ما هو الكوثر
قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ﴾ [الكوثر: 1 – 3].
روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس – رضي الله عنه – قال: “الكوثر الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه، قال أبوبشر: قلت لسعيد: إن أناسًا يزعمون أنه نهر في الجنة؟ فقال سعيد: النهر الذي في الجنة من الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه.
وروى البخاري في صحيحه من حديث أنس بن مالك: أن النبي – ﷺ – قال: “بينما أنا أسير في الجنة إذا أنا بنهر حافتاه قباب الدر المجوف، قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: الكوثر الذي أعطاك ربك، فإذا طينه مسك أذفر.
وهذا الكوثر يصب منه ميزابان في حوض النبي – ﷺ -، فقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر – رضي الله عنه -: أن النبي – ﷺ – عندما ذكر الحوض قال: “يشخب فيه ميزابان من الجنة، من شرب منه لم يظمأ.
وفي رواية أخرى لمسلم: “يغت فيه ميزابان يمدانه من الجنة، أحدهما من ذهب، والآخر من ورق”.
وهذا الحوض، وصفته ثبتت بطرق عن جمع من الصحابة عن النبي – ﷺ، واشتهر ذلك واستفاض، بل تواترت في كتب السنة من الصحاح، والحسان، والمسانيد، والسنن، والحوض هو مجمع الماء.
قال النووي – رحمه الله -: “وهذا تصريح بأن الحوض حقيقي على ظاهره كما سبق، وأنه مخلق و موجود اليوم”.
وقال الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله -: “والحوض موجود الآن” لما رواه البخاري، ومسلم من حديث عقبة بن عامر: أنَّ النَّبِيَّ – ﷺ – خرج يومًا فصلى على أهل أحد صلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر، فقال: “إني فرط لكم، وأنا شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن”.
وروى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -: أن النبي – ﷺ – قال: “ومنبري على حوضي.
ولهذا يحتمل أنه في هذا المكان، لكن لا نشاهده لأنه غيبي، ويحتمل أن المنبر يوضع يوم القيامة على الحوض. اهـ.
صفة الحوض والكوثر
كيفية ماء الكوثر، فإنه أشد بياضًا من اللبن، هذا اللون، أما في الطعم فإنه أحلى من العسل، وفي الرائحة أطيب من المسك.
روى مسلم من حديث أبي ذر: أن النبي – ﷺ – عندما ذكر الحوض قال: “ماؤه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل“، وفي رواية في الصحيحين: “وريحه أطيب من المسك.
آنية الحوض فعدد نجوم السماء، وهذا ورد في بعض ألفاظ الحديث في الصحيحين، وفي بعضها: “وآنيته كنجوم السماء”، وهذا لفظ أشمل لأنه يكون كالنجوم في العدد، وفي الوصف بالنور واللمعان، فآنيته كنجوم السماء كثرة، وإضاءة، وفي بعض روايات الصحيح: أن هذه الأباريق من ذهب، وفضة.
مساحة الحوض طوله شهر، وعرضه شهر، قال الشيخ ابن عثيمين: وهذا يقتضي أن يكون مدورًا، لأنه لا يكون بهذه المساحة من كل جانب إلا إذا كان مدورًا، وهذه المسافة باعتبار ما هو معلوم في عهد النبي – ﷺ – من سير الإبل المعتاد، فقد جاء في الصحيحين: “أن عرضه مثل طوله من عمان إلى أيلة”، وعمان بلدة بالبلقاء من الشام، وأيلة بلدة بطرف بحر القلزم من طرف الشام، وهي الآن خراب يمر بها الحاج من مصر.
وفي رواية أخرى: “ما بين جرباء وأذرح”، وهما قريتان بالشام بينهما مسيرة ثلاثة أيام، وفي رواية أخرى: “قدر حوضي كما بين أيلة وصنعاء من اليمن”، وفي أخرى: “ما بين ناحيتيي حوضي كما بين صنعاء والمدينة”.
وذكر بعض العلماء تأويلات لاختلاف هذه المسافات التي ذكرت في عرض الحوض وطوله.
منها أن النبي – ﷺ – أخبر بالمسافة اليسيرة، ثم أعلم بالمسافة الطويلة، فأخبر بها كأن الله تفضل عليه باتساعه شيئًا بعد شيء، فيكون الاعتماد على ما يدل على أطولها مسافة، وقيل غير ذلك.
زمن الورود على الحوض قبل العبور إلى الصراط، لأن المقام يقتضي ذلك، حيث إن الناس في حاجة إلى الشرب في عرصات القيامة قبل العبور إلى الصراط، وقد رجح بعض أهل العلم ذلك، ومن شرب من الحوض لم يظمأ أبدًا، لما ورد في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو: “من شرب منه لم يظمأ أبدًا”.
أسباب الورود على الحوض
1 – التمسك بالكتاب والسنة، والثبات على ذلك، والبعد عن البدع المحدثة في الدين وكبائر الذنوب، روى الحاكم في المستدرك: من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -: أن النبي – ﷺ – قال: “إني قد تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض”.
وروى البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه -: أن النبي – ﷺ – قال: “إني فرطكم على الحوض، من مر بي شرب، ومن شرب لم يظمأ أبدًا، وليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفوني، ثم يحال بيني وبينهم، فأقول: إنهم مني، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقًا سحقًا لمن غير بعدي” فكان ابن أبي مليكة يقول: اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا، أو نفتن عن ديننا.
قال ابن عبد البر: كل من أحدث في الدين فهو من المطرودين عن الحوض، كالخوارج، والروافض، وسائر أصحاب الأهواء، قال: وكذلك الظلمة المسرفون في الجور وطمس الحق، والمعلنون للكبائر.
قال: وكل هؤلاء يخاف عليهم أن يكونوا ممن عنوا بهذا الخبر، والله أعلم. اهـ.
2 – عدم إعانة الولاة الظلمة على ظلمهم، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث كعب بن عجرة أن النبي – ﷺ – قال له: “أعاذك الله من إمارة السفهاء، قال: وما إمارة السفهاء؟ قال: أمراء يكونون بعدي لا يهتدون بهديي ولا يستنون بسنتي، فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم، فأولئك ليسوا مني ولست منهم، ولا يردون على حوضي، ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فأولئك مني وأنا منهم وسيردوا على حوضي.
3 – الصبر على ما يصيب المؤمن من نقص في الدنيا، واستئثار غيره بها، روى البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك: أن النبي – ﷺ -: “سترون بعد أثرة شديدة، حتى تلقوا الله وروسوله – ﷺ – على الحوض”.
4 – المحافظة على الوضوء، روى مسلم في صحيحه من حديث حذيفة – رضي الله عنه -: أن النبي – ﷺ – عندما ذكر الحوض قال: “والذي نفسي بيده إني لأذود عنه كما يذود الرجل الإبل الغريبة عن حوضه قالوا: يا رسول الله أوتعرفنا؟ قال: نعم، تردون علي الحوض غرًا محجلين من آثار الوضوء ليست لأحد غيركم”.
اللهم أوردنا حوض نبيك ﷺ، واجعلنا من المتبعين لسنته، اللهم اسقنا من حوضه شربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبدًا، اللهم احشرنا في زمرته، واجعلنا من أتباعه مع النبيين، والصديقين والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.