مما يعين على الإخلاص قراءة سير المخلصين، والتعرف على حياتهم، للتأثر بهم، والاهتداء بهداهم، فإذا لم يستطع السالك إلى الله أن يجد المخلصين الأحياء ليصاحبهم، فلا أقل من أن يصحب المخلصين الأموات، فإن الأخلاق كالأفكار لا تموت بموت أصحابها.
فهذه القراءة لون من الصحبة والمعايشة، ولكنها صحبة فكرية ونفسية، ومعايشة روحية وإيمانية.
ومن فضل الله تبارك وتعالى: أن في تراثنا كثيرًا من “النماذج المخلصة” التي لا يملك من قرأها إلا أن يتأثر بها.
نماذج من المخلصين في التاريخ:
من هذه النماذج نموذج الثلاثة “أصحاب الغار” الذين قص علينا قصتهم رسول الله ﷺ. حين أطبقت عليهم الصخرة، فلم ينجهم منها إلا أعمال صالحة كانوا قدموها خالصة لوجه الله تعالى، فتوسلوا إلى الله بها، وقال كل واحد منهم: “اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه”. ففرج الله عنهم، وأخرجهم من ورطتهم بسبب إخلاصهم.
ومن هذه النماذج ما جاء في الحديث الذي رواه النسائي في سننه عن شداد بن الهاد رضي الله عنه: أن رجلاً من الأعراب جاء إلى النبي ﷺ فآمن به واتبعه، ثم قال: أهاجر معك، فأوصى به النبي ﷺ بعض أصحابه.
فلما كانت غزاته غنم النبي ﷺ فقسم وقسم له، فأعطى أصحابه ما قسم له، وكان يرعى ظهرهم، فلما جاء دفعوه إليه، فقال: ما هذا؟ قالوا: قسم قسمه لك النبي ﷺ، فأخذه، فجاء به إلى النبي ﷺ فقال: ما هذا؟ قال: “قسمته لك”.
قال: ما على هذا اتبعتك، ولكن اتبعتك على أن أرمي إلى هاهنا ـ وأشار إلى حلقه ـ بسهم، فأموت، فأدخل الجنة، فقال: “إن تصدق الله يصدقك”.
فلبثوا قليلاً: ثم نهضوا إلى قتال العدو، فأتي به إلى النبي ﷺ يحمل، قد أصابه سهم حيث أشار، فقال النبي ﷺ: “أهو هو”؟ قالوا: نعم، قال: “صدق الله فصدقه”.
ثم كفنه النبي ﷺ في جبته التي عليه، ثم قدمه فصلى عليه، وكان بما ظهر من صلاته: “اللهم هذا عبدك، خرج مهاجرًا في سبيلك، فقتل شهيدًا، أنا شهيد على ذلك”.
ومن ذلك: ما حفل به التاريخ الإسلامي من روائع البطولات، ووقائع المخلصين الذين نذروا أنفسهم لله، وجعلوا حياتهم كلها لله، وجهادهم كله لله، فلم يشركوا به أحدًا.
من هؤلاء: ما نقل عن “صاحب النقب”، وتتلخص قصته في أن المسلمين في إحدى معاركهم وقفوا أمام حصن منيع من حصون عدوهم، وطال حصارهم لهذا الحصن، ثم فكر أحد الجنود في فتح ثغرة أو نقب في جدار الحصن، يتسلل منه، ويفتح الباب للمقاتلين المسلمين.
فعل ذلك الجندي المسلم، ونقب النقب وحده في هدوء وصمت، مما مكن المسلمين من تحقيق النصر المنشود بأقل التضحيات.
المهم أن قائد المعركة بحث عن “صاحب النقب” الذي كان وراء هذا النصر، ولم يتقدم أحد يقول: أنا هو. فخطب في جنوده قائلاً: أقسمت بالله على من نقب النقب أو عرف صاحبه إلا دلّني عليه.
وبينما القائد في خيمته دخل عليه رجل، وقال له: هل تريد أن تعرف صاحب النقب؟ قال: نعم والله.
قال: أنا أدلّك عليه، ولكن له شروطًا يطلبها، قال: له كل ما يشترط، فما شروطه رحمك الله؟ قال: ألا تسأله عن اسمه، ولا تعلن عنه في الناس أو إلى الخليفة، ولا تكافئه على عمله، قال: له ذلك، فأين هو؟ قال: أنا هو! فقام القائد وعانقه. فطالبه بالوفاء بالشرط، فلم يملك القائد إلا الاستجابة، وذاب هذا الجندي المجهول في المحيط الكبير، فلم يره أحد بعد ذلك.
فكان القائد يدعو الله أن يحشره مع صاحب النقب، وأن ينصر دينه به وبأمثاله من أهل الإيمان والإخلاص: (هو الذي أيّدك بنصره وبالمؤمنين).