الغضب باب لكل الشرور ؛ لذا كان النبي كثيرا ما يوصي بعدم الغضب ؛ فقد روى البخاري في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال للنبي ﷺ: أوصني قال : لا تغضب فرددّ مراراً قال : لا تغضب .
لذا اعتبر النبي ﷺ من يمتلك نفسه عند الغضب من أشد الناس روى البخاري في الصحيح عن رسول الله ﷺ قال : ليس الشديد بالصرعة ، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب .
فالشديد ليس من يصرع خصمه في ميدان النزال بل الشديد الذي يصرع نفسه ويقمع غضبه ، والغضب من النوازع التي تعتري الإنسان و تجعل الشيطان يتلاعب به ، وهناك أشياء وردت في السنة تعين الإنسان على التخلص من هذه الصفة المذمومة .
الغضب نزغة من نزغات الشيطان ، يقع بسببه من السيئات والمصائب مالا يعلمه إلا الله ، ولذلك جاء في الشريعة ذكرُ واسع لهذا الخلق الذميم ، وورد في السنة النبوية علاج الغضب للتخلص من هذا الداء وللحدّ من آثاره ، فمن ذلك :
1- الاستعاذة بالله من الشيطان :
عن سليمان بن صرد قال : كنت جالساً مع النبي ﷺ ، ورجلان يستبّان ، فأحدهما احمرّ وجهه واتفخت أوداجه ( عروق من العنق ) فقال النبي ﷺ : إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد ، لو قال أعوذ بالله من الشيطان ذهب عنه ما يجد رواه البخاري ، ومسلم .
وقال ﷺ : إذا غضب الرجل فقال أعوذ بالله ، سكن غضبه صحيح الجامع.
2-السكوت :
قال رسول الله ﷺ : ( إذا غضب أحدكم فليسكت ) رواه الإمام أحمد المسند وفي صحيح الجامع.
وذلك أن الغضبان يخرج عن طوره وشعوره غالباً فيتلفظ بكلمات قد يكون فيها كفرـ والعياذ بالله ـ أو لعن أو طلاق يهدم بيته ، أو سب وشتم – يجلب له عداوة الآخرين . فبالجملة : السكوت هو الحل لتلافي كل ذلك .
3- السكون :
قال رسول الله ﷺ : ( إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس ، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع ) .
وراوي هذا الحديث أبو ذر رضي الله عنه ، حدثت له في ذلك قصة : فقد كان يسقي على حوض له فجاء قوم فقال : أيكم يورد على أبي ذر ويحتسب شعرات من رأسه ؟ فقال رجل أنا فجاء الرجل فأورد عليه الحوض فدقّه أي كسره أو حطّمه والمراد أن أبا ذر كان يتوقع من الرجل المساعدة في سقي الإبل من الحوض فإذا بالرجل يسيء ويتسبب في هدم الحوض، وكان أبو ذر قائماً فجلس ثم اضطجع فقيل له : يا أبا ذر لم جلست ثم اضطجعت ؟ قال : فقال : إن رسول الله ﷺ …. وذكر الحديث بقصته في مسند أحمد وانظر صحيح الجامع.
وفي رواية كان أبو ذر يسقي على حوضٍ فأغضبه رجل فقعد …. فيض القدير .
ومن فوائد هذا التوجيه النبوي منع الغاضب من التصرفات الهوجاء ؛ لأنه قد يضرب أو يؤذي بل قد يقتل – كما سيرد بعد قليل – وربما أتلف مالاً ونحوه ، ولأجل ذلك إذا قعد كان أبعد عن الهيجان والثوران ، وإذا اضطجع صار أبعد ما يمكن عن التصرفات الطائشة والأفعال المؤذية . قال العلامة الخطابي – رحمه الله – في شرحه على أبي داود : ( القائم متهيئ للحركة والبطش والقاعد دونه في هذا المعنى ، والمضطجع ممنوع منهما ، فيشبه أن يكون النبي ﷺ إنما أمره بالقعود والاضطجاع ؛ لئلا يبدر منه في حال قيامه وقعوده بادرة يندم عليها فيما بعد سنن أبي داود ، ومعه معالم السنن.
4- حفظ وصية رسول الله ﷺ :
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال للنبي ﷺ : أوصني. قال : لا تغضب . فردّد ذلك مراراً ، قال : لا تغضب . رواه البخاري.
وفي رواية قال الرجل : ففكرت حين قال النبي ﷺ ، ما قال فإذا الغضب يجمع الشر كله، مسند أحمد.
5- ” لا تغضب ولك الجنة”:
هذا حديث صحيح : صحيح الجامع . وعزاه ابن حجر إلى الطبراني ، إن تذكر ما أعد الله للمتقين الذين يتجنبون أسباب الغضب ويجاهدون أنفسهم في كبته ورده لهو من أعظم ما يعين على إطفاء نار الغضب ، ومما ورد من الأجر العظيم في ذلك قوله ﷺ ومن كظم غيظاً ، ولو شاء أن يمضيه أمضاه ، ملأ الله قلبه رضاً يوم القيامة رواه الطبراني هو في صحيح الجامع.
وأجر عظيم آخر في قوله عليه الصلاة والسلام : ( من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه ، دعاه الله عز وجل على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره من الحور العين ما شاء رواه أبو داود وغيره ، وحسنّه في صحيح الجامع.
6- معرفة الرتبة العالية والميزة المتقدمة لمن ملك نفسه:
قال رسول الله ﷺ ، ( ليس الشديد بالصرعة ، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ) رواه أحمد ، والحديث متفق عليه .
وكلما انفعلت النفس واشتد الأمر كان كظم الغيظ أعلى في الرتبة . قال عليه الصلاة والسلام : ( الصرعة كل الصرعة الذي يغضب فيشتد غضبه ويحمر وجهه ، ويقشعر شعره فيصرع غضبه ) رواه الإمام أحمد ، وحسنه في صحيح الجامع .
وينتهز عليه الصلاة والسلام الفرصة في حادثة أمام الصحابة ليوضّح هذا الأمر ، فعن أنس أن النبي ﷺ مرّ بقوم يصطرعون ، فقال : ماهذا ؟ قالوا : فلان الصريع ما يصارع أحداً إلا صرعه قال : أفلا أدلكم على من هو أشد منه ، رجلٌ ظلمه رجلٌ فكظم غيظه فغلبه ، وغلب شيطانه ، وغلب شيطان صاحبه . رواه البزار قال ابن حجر : بإسناد حسن . الفتح.
7- التأسي بهديه ﷺ في الغضب :
وهذه السمة من أخلاقه ﷺ ، وهو أسوتنا وقدوتنا ، واضحة في أحاديث كثيرة ، ومن أبرزها : عن أنس رضي الله عنه قال : كنت أمشي مع رسول الله ﷺ ، وعليه بُرد نجراني غليظ الحاشية ، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة ، فنظرت إلى صفحة عاتق النبي ﷺ ( ما بين العنق والكتف ) وقد أثرت بها حاشية البرد ، ثم قال : يا محمد مُر لي من مال الله الذي عندك ، فالتفت إليه ﷺ فضحك ، ثم أمر له بعطاء . متفق عليه فتح الباري..
ومن التأسي بالنبي ﷺ أن نجعل غضبنا لله ، وإذا انتهكت محارم الله ، وهذا هو الغضب المحمود فقد غضب ﷺ لما أخبروه عن الإمام الذي يُنفر الناس من الصلاة بطول قراءته ، وغضب لما رأى في بيت عائشة ستراً فيه صور ذوات أرواح ، وغضب لما كلمه أسامة في شأن المخزومية التي سرقت ، وقال : أتشفع في حد من حدود الله ؟ وغضب لما سُئل عن أشياء كرهها ، وغير ذلك . فكان غضبه ﷺ لله وفي الله .
8- معرفة أن كظم الغضب من علامات المتقين :
وهؤلاء الذين مدحهم الله في كتابه ، وأثنى عليهم رسوله ، ﷺ ، وأعدت لهم جنات عرضها السماوات والأرض ، ومن صفاتهم أنهم : { ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين } وهؤلاء الذين ذكر الله من حسن أخلاقهم وجميل صفاتهم وأفعالهم ، ماتشرئبّ الأعناق وتتطلع النفوس للحوق بهم ، ومن أخلاقهم أنهم : { إذا ما غضبوا هم يغفرون } .
9- التذكر عند التذكير :
الغضب أمر من طبيعة النفس يتفاوت فيه الناس ، وقد يكون من العسير على المرء أن لا يغضب ، لكن الصدّيقين إذا غضبوا فذكروا بالله ذكروا الله ووقفوا عند حدوده ، وهذا مثالهم .
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً استأذن على عمر رضي الله عنه فأذن له ، فقال له : يا ابن الخطاب ، والله ما تعطينا الجزل ( العطاء الكثير ) ولا تحكم بيننا بالعدل ، فغضب عمر رضي الله عنه حتى همّ أن يوقع به ، فقال الحر بن قيس ، ( وكان من جلساء عمر ) : يا أمير المؤمنين إن الله عز وجل قال لنبيه ، ﷺ : { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } وإن هذا من الجاهلين ، فوالله ما جاوزها عمر رضي الله عنه حين تلاها عليه ، وكان وقافاً عند كتاب الله عز وجل رواه البخاري فهكذا يكون المسلم ، وليس مثل ذلك المنافق الخبيث الذي لما غضب أخبروه بحديث النبي ﷺ وقال له أحد الصحابة : تعوذ بالله من الشيطان ، فقال لمن ذكره : أترى بي بأس أمجنون أنا ؟ اذهب . رواه البخاري. نعوذ بالله من الخذلان .
10- معرفة مساوئ الغضب :
وهي كثيرة ، مجملها الإضرار بالنفس والآخرين ، فينطلق اللسان بالشتم والسب والفحش وتنطلق اليد بالبطش بغير حساب ، وقد يصل الأمر إلى القتل ، وهذه قصة فيها عبرة : عن علقمة بن وائل أن أباه رضي الله عنه حدّثه قال : إني لقاعد مع النبي ﷺ إذ جاء رجل يقود آخر بنسعة ( حبل مضفور ) فقال : يا رسول الله هذا قتل أخي . فقال رسول الله ﷺ ، أقتلته ؟ قال : نعم قتلته . قال : كيف قتلته ؟ قال : كنت أنا وهو نختبط ( نضرب الشجر ليسقط ورقه من أجل العلف ) من شجرة ، فسبني فأغضبني فضربته بالفأس على قرنه ( جانب الرأس ) فقتلته … إلى آخر القصة رواه مسلم في صحيحه.
وقد يحصل أدنى من هذا فيكسر ويجرح ، فإذا هرب المغضوب عليه عاد الغاضب على نفسه ، فربما مزق ثوبه ، أو لطم خده ، وربما سقط صريعاً أو أغمي عليه ، وكذلك قد يكسر الأواني ويحطم المتاع .
ومن أعظم الأمور السيئة التي تنتج عن الغضب وتسبب الويلات الاجتماعية وانفصام عرى الأسرة وتحطم كيانها ، هو الطلاق . واسأل أكثر الذين يطلقون نساءهم كيف طلقوا ومتى ، فسينبئونك : لقد كانت لحظة غضب .
فينتج عن ذلك تشريد الأولاد ، والندم والخيبة ، والعيش المرّ ، وكله بسبب الغضب . ولو أنهم ذكروا الله ورجعوا إلى أنفسهم ، وكظموا غيظهم واستعاذوا بالله من الشيطان ما وقع الذي وقع ولكن مخالفة الشريعة لا تنتج إلا الخسارة .
وما يحدث من الأضرار الجسدية بسبب الغضب أمر عظيم كما يصف الأطباء كتجلّط الدم ، وارتفاع الضغط ، وزيادة ضربات القلب ، وتسارع معدل التنفس ، وهذا قد يؤدي إلى سكته مميتة أو مرض السكري وغيره . نسأل الله العافية .
11- تأمل الغاضب نفسه لحظة الغضب:
لو قدر لغاضب أن ينظر إلى صورته في المرآة حين غضبه لكره نفسه ومنظره ، فلو رأى تغير لونه وشدة رعدته ، وارتجاف أطرافه ، وتغير خلقته ، وانقلاب سحنته ، واحمرار وجهه ، وجحوظ عينيه وخروج حركاته عن الترتيب وأنه يتصرف مثل المجانين لأنف من نفسه ، واشمأز من هيئته ومعلوم أن قبح الباطن أعظم من قبح الظاهر ، فما أفرح الشيطان بشخص هذا حاله ! نعوذ بالله من الشيطان والخذلان.
12- الدعاء :
هذا سلاح المؤمن دائماً يطلب من ربه أن يخلصه من الشرور والآفات والأخلاق الرديئة ، ويتعوذ بالله أن يتردى في هاوية الكفر أو الظلم بسبب الغضب ، ولأن من الثلاث المنجيات : العدل في الرضا والغضب صحيح الجامع ، وكان من دعائه عليه الصلاة والسلام : ( اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيراً لي ، وتوفني إذا علمت الوفاة خيراً لي ، اللهم وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة ، وأسألك كلمة الإخلاص في الرضا والغضب ، وأسألك القصد في الفقر والغنى وأسألك نعيماً لا ينفد ، وقرة عين لا تنقطع ، وأسألك الرضا بعد القضاء ، وأسألك برد العيش بعد الموت ، أسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك ، في غير ضراء مضرّ ة ولا فتنة مضلّة . اللهم زينا بزينة الإيمان ، واجعلنا هداة مهتدين .