الإيمان هو الذي يهون على الإنسان شهواته ومطالب دنياه، فإذا هو يكتفي بما يسد الجوعة من الطعام. وما يستر العورة من اللباس. وإذا هو يرضى بالقليل من المال، والمتواضع من المسكن، بل يهون على الإنسان ماله فينفقه، ومسكنه فيهجره، وأهله فيرحل عنهم، بل يهون عليه حياته نفسها، فإذا هو يضع رأسه على كفه، يخوض المعامع، رابط الجأش راضي النفس، مطمئن الضمير. فإذا أدركه الموت في ميدان الجهاد، استقبله بارتياح وسرور، لأنه يوقن أن وراءه الجنة: (ورضوان من الله أكبر) (التوبة: 72).
ذلك أن الإنسان يكاد لا يعطي شيئاً إلا ليأخذ في مقابله شيئاً، نقداً أو نسيئة، فنفسه تتطلع دائماً إلى الجزاء العادل على ما قدم، وقد حاول الفلاسفة الماديون أن يشبعوا هذا الجانب بالأجزية الأخلاقية المجردة عن الدين، وعن طريق ما أسموه «الضمير» الذي يجزي فاعل الخير، ومؤدي الواجب، بالسرور والرضا والارتياح الذي يحسه الإنسان بين جنبيه.
ولكنهم حاروا كيف يجزى من يضحي بنفسه ويبذل روحه ويموت شهيداً في سبيل الحق؟ إنه لا مجال لرضا النفس وراحتها بعد الموت عند هؤلاء الماديين، والموت عندهم فناء محض.
إن الإيمان بالله وبجزاء الآخرة هو الذي يحل هذه العقدة. وفي البذل والتضحية باسم الدين إرضاء لهذا الجانب في نفس الإنسان، فإن ما أعطاه المؤمن يعود عليه أضعافاً مضاعفة، وما أنفقه من مال فالله يخلفه، وما أصابه من أذى في نفسه أو بدنه فالله معوضه عنه، وإذا قدم روحه في سبيل الله فمات أو قتل فلم يمت في الحقيقة، وإنما هو حي عند ربه يرزق … وفي هذا كله يقول القرآن: (وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون) (البقرة: 272) و (وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه، وهو خير الرازقين) (سبأ: 39)، (ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون) (آل عمران: 157)، (والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم * سيهديهم ويصلح بالهم * ويدخلهم الجنة عرفها لهم) (محمد: 4 – 6).
إن كل جهد -مادي أو أدبي، نفسي أو بدني- يبذله المؤمن في سبيل الله -مهما يبلغ من ضآلة حجمه- فهو محسوب له في «رصيد» حسناته عند الله، لا يضيع منه مثقال ذرة، حتى الخطوة التي تمشيها قدمه، وحتى الفلس ينفقه، وحتى الإحساس بالجوع أو العطش أو التعب: (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله، ولا يطئون موطئاً يغيظ الكفار، ولا ينالون من عدو نيلاً، إلا كتب لهم به عمل صالح، إن الله لا يضيع أجر المحسنين * ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة، ولا يقطعون وادياً إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون) (التوبة: 120، 121).
فلا عجب أن نرى ديناً كالإسلام يقدم لنا -في مرحلة قوته وازدهاره- نماذج رائعة للتضحية والبذل والكفاح والجهاد، وبأعداد هائلة، تقدم ما تملك من نفس ومال في سبيل الله وهي قريرة العين.
وحسب المرء منهم أن يسمع أو يقرأ آية من كتاب الله تدعوه إلى الإنفاق والجهاد، فإذا هو يسارع إلى تنفيذها ولا يحجم ولا يتردد مقدماً النفس والنفيس ابتغاء رضوان الله.
قرأ أبو طلحة الأنصاري سورة «براءة» حتى بلغ هذه الآية: (انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله) (التوبة: 41) فقال: خفافاً وثقالاً: شباناً وكهولاً، ما سمع الله عذر أحد، وقال لبنيه: أي بني جهزوني .. جهزوني .. جهزوني (يعني للجهاد) فقال بنوه: يرحمك الله قد غزوت مع النبي ﷺ حتى مات، ومع أبى بكر حتى مات، ومع عمر حتى مات. فنحن نغزو عنك! قال: لا .. جهزوني .. فجهزوه بجهاز الحرب، فغزا في البحر، فمات في البحر، فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام فدفنوه فيها رضي الله عنه.
وخرج سعيد بن المسيب إلى الغزو، وقد ذهبت إحدى عينيه، فقيل له: انك عليل! فقال: استنفر الله الخفيف والثقيل، فإن لم يمكني الحرب كثرت السواد وحفظت المتاع.
ورأى بعضهم في غزوات الشام رجلاً قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر فقال له: يا عم! إن الله قد عذرك، فقال: يا ابن أخي قد أمرنا بالنفير خفافاً وثقالاً (ذكر هذه الوقائع الإمام القرطبي في تفسير: “خفافاً وثقالاً”).
ولقد روي في بعض الغزوات أن الابن وأباه كانا يتسابقان إلى الجهاد، فيقرعان بينهما فتخرج القرعة للابن، فيقول الأب: آثرني يا بني، أنا أبوك! فيقول الابن: إنها الجنة يا أبت! ولو كان شيء غيرها لآثرتك والله.
وعمرو بن الجموح الأنصاري أعرج شديد العرج، وكان له أربعة بنين شباب، يغزون مع الرسول ﷺ. فلما كان يوم أحد، طلب إلى بنيه أن يعدوا له عدة الجهاد، فقال له بنوه: إن الله قد جعل لك رخصة فلو قعدت ونحن نكفيك! وقد وضع الله عنك الجهاد؟ فأتى عمرو رسول الله ﷺ فقال: إن بني هؤلاء يمنعونني أن أجاهد معك، ووالله إني لأرجو أن أستشهد فأطأ بعرجتي هذه في الجنة!! فقال له رسول الله ﷺ: أما أنت فقد وضع الله عنك الجهاد. وقال لبنيه: وما عليكم أن تدعوه، لعل الله عز وجل يرزقه الشهادة. فخرج مع رسول الله -ﷺ- فقتل يوم أحد شهيداً – وفيه قال النبي ﷺ للأنصار: إن منكم يا معشر الأنصار من لو أقسم على الله لأبره، منهم عمرو بن الجموح!
وهذا نموذج آخر من نماذج التضحية: نموذج التضحية بالراحة والثروة، والاستمتاع بالحياة الرضية الناعمة، وارتضاء الحرمان والمشقة والبلاء والأذى في سبيل الله.
فتى كمصعب بن عمير، نشا في الحلية، وربي في الرفاهية والنعمة، بين أبوين يحبانه أشد الحب، ويحنوان عليه أعظم الحنو، يغذوانه بأطيب الطعام، ويكسوانه بأحسن اللباس، وينشران عليه أجنحة العطف والإيثار والرعاية والتدليل، فتى منعم مدلل كهذا، ما الذي يجعله يدع هذه الحياة اللذيذة الهادئة الهانئة، إلى حياة خشونة وبأساء، وزلزلة وجهاد، وغربة وهجرة؟. ما الذي جعله يرضى بمفارقة الأهل والوطن، ويرغب عن الثروة والجاه ويفر بدينه مهاجراً إلى الحبشة ثم إلى المدينة، حتى يموت في دار الهجرة شهيداً في غزوة أحد، فلا يجد المسلمون له ثوباً يكفي لغطاء جسده، كل الذي وجدوه ثوب قصير، إذا غطى به رأسه بانت رجلاه، وإذا غطيت به رجلاه، بانت رأسه؟؟ لا شيء إلا الإيمان.
يروي «ابن سعد» عن محمد بن شرحبيل العبدري، أحد أقرباء مصعب هذه الكلمات في وصفه. يقول: كان مصعب بن عمير فتى مكة شباباً وجمالاً وسبيباً، وكان أبواه يحبانه، وكانت أمه مليئة كثيرة المال، تكسوه احسن ما يكون من الثياب وأرقه، وكان أعطر أهل مكة يلبس الحضرمي من النعال، فكان رسول الله ﷺ يدعو إلى الإسلام في دار الأرقم بن أبي الأرقم فدخل عليه فأسلم وصدق به وخرج فكتم إسلامه خوفاً من أمه وقومه فأخذوه فحبسوه، فلم يزل محبوساً حتى خرج إلى أرض الحبشة في الهجرة الأولى، ثم رجع مع المسلمين حين رجعوا، فرجع متغير الحال قد حرج -يعني غلظ.
ويقول خباب بن الأرت:
هاجرنا مع رسول الله -ﷺ- نبتغي وجه الله فوجب أمرنا على الله، فمنا من مضى، ولم يأكل من أجره شيئاً منهم مصعب بن عمير، قتل يوم أحد فلم يوجد له شيء يكفيه يكفن فيه إلا نمرة، قال: فكنا إذا وضعناها على رأسه خرجت رجلاه، وإذا وضعناها على رجليه خرج رأسه، فقال لنا رسول الله -ﷺ- اجعلوها مما يلي رأسه، واجعلوا على رجليه من الأذخر.
ولقد وقف الرسول -ﷺ- على هذا الفتى، وهو مقتول مسجي في بردة، فقال والدموع تزدحم في عينيه: لقد رأيتك بمكة وما بها أحد أرق حلة، ولا أحسن لمة منك، ثم أنت شعث الرأس في بردة.
وعن عبيد بن عمير أن النبي -ﷺ- وقف على مصعب وهو منجعف على وجهه، فقرأ هذه الآية (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً) (الأحزاب: 23).
وهذا نموذج آخر من نماذج التضحية: هي التضحية بالمال، يرويه لنا زيد بن أسلم رضي الله عنه قال: لما نزل (من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً) (البقرة: 245، الحديد: 11) قال أبو الدحداح : فداك أبي وأمي يا رسول الله! وإن الله يستقرضنا وهو غني عن القرض؟ قال “نعم يريد أن يدخلكم الجنة به” قال : فإني قد أقرضت ربي قرضاً يضمن لي به ولصبيتي الدحداحة معي الجنة؟ قال “نعم” قال: ناولني يدك، فناوله رسول الله ﷺ يده. فقال: إن لي حديقتين إحداهما بالسافلة والأخرى بالعالية، والله لا أملك غيرهما قد جعلتهما قرضاً لله تعالى. قال رسول الله -ﷺ-: “اجعل إحداهما لله والأخرى دعها معيشة لك ولعيالك” قال: فأشهدك يا رسول الله أني قد جعلت خيرهما لله تعالى وهو حائط فيه ستمائة نخلة. قال: “إذن يجزيك الله به الجنة” فانطلق أبو الدحداح حتى جاء أم الدحداح وهي مع صبيانها في الحديقة تدور تحت النخل فأنشأ يقول:
إلى سبيل الخير والسداد
هداك ربي سبل الرشـاد
فقد مضى قرضاً إلى التناد
بيني من الحائط بالـوداد
بالطوع لا من ولا ارتداد
أقرضته الله على اعتمادي
فارتحلي بالنفس والأولاد
إلا رجاء الضعف في المعاد
قدمه المرء إلى المعـــاد
والبـر لا شك فخير زاد
فقالت أم الدحداح: ربح بيعك! بارك الله لك فيما اشتريت! وأجابته أم الدحداح وأنشأت تقول:
مثلك أدى ما لديه ونصــح
بشرك الله بخير وفـــرح
بالعجوة السوداء والزهو البلح
قد متع الله عيالي ومنــح
طول الليالي وعليه ما اجتـرح
والعبد يسعى وله ما قد كدح
ثم أقبلت أم الدحداح على صبيانها تخرج ما في أفواههم وتنفض ما في أكمامهم حتى أفضت إلى الحائط الآخر، فقال النبي ﷺ: “كم من عذق رداح ودار فياح لأبي الدحداح”. أي في الجنة.
إن تاريخ الإسلام وتاريخ الأنبياء وأتباعهم في كل عصر. حافل بالصور الحية، والنماذج الرائعة للبذل والتضحية في سبيل الحق، وهي صور ونماذج لم يصنعها غير الإيمان، ولن يصنع أمثالها -إذا أردنا لها أمثالاً- إلا الإيمان!
ومن ثمار هذه القوة التحرر من الخوف والحرص.
فلقد رأينا الناس لا يضعف نفوسهم شيء كالحرص على الحياة وإن تكن ذليلة، والهرب من الموت وإن كان كريماً، ولا يغرس فيهم القوة شيء كالاستهانة بالحياة، والإقبال على الموت في سبيل الحق الذي يعتقدونه ولا شيء كالإيمان بالله وبالخلود يهون على الإنسان لقاء الموت، وفراق الحياة.
والمرء إذا هانت عليه الدنيا، ولم يبال بالموت … هان عليه جبابرة الأرض، وملوك الناس، ونظر إلى الذهب كما ينظر إلى الحجر، وإلى السيف كما ينظر إلى العصا أو هو أدنى.
الحرص والخوف هما اللذان يضعفان النفوس، ويحنيان الرؤوس، ويذلان الأعناق. وإذا لم يكن حرص ولا خوف فلا سبيل إلى الضعف بحال.
وقد رأينا سحرة فرعون حين آمنوا بالله والآخرة استهانوا بالدنيا ولم يجزعوا من الموت، يقولون لفرعون وهم في ثبات الجبال (فاقض ما أنت قاض، إنما تقضي هذه الحياة الدنيا) (طه: 72) إنهم لا يحرصون على شيء عنده، ولا يخافونه على شيء عندهم، فلماذا يهنون أو يضعفون؟ كلا … لقد انقلبوا من أتباع له إلى دعاة له يبشرون وينذرون (إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر، والله خير وأبقى) (طه: 73).