ما هي ظاهرة الحُمْس وأشكالها وأسرارها قبل الإسلام:
“الحُمْس” بضم الحاء من التحمس، وهو التشدد، أي أنهم قوم تشددوا في دينهم، برغم أنهم قد شددوا على الناس، قبلأنفسهم -كما سيأتي- وقيل سُمُّوا حُمْسًا بالكعبة؛ لأنها حَمْساء: حجرها أبيض يضرب إلى السواد. (فتح الباري) .
وهؤلاء الذين شددوا على غيرهم وميزوا أنفسهم هم أهل الحُمْس وأعني بهم قريش وقبائل أخرى لها مع قريش صلة قرابة أو مصاهرة؛ مثل: كنانة، وخزاعة، والأوس، والخزرج، وثقيف.
وبالتالي فلا يفهم الحُمس على أنه حج بل هو نوع من عنصرية التدين المذموم.
ومعلوم أن أهل الجاهلية، ومنهم أهل الحُمس غيروا كثيراً مما ترك سيدنا إبراهيم عليه السلام من الحنفية الخالصة، حتى قال فيهم الله عزوجل:(“وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ البيتِ إلاَّ مُكَاءً وتصدِيَةً” (سورة الأنفال 35) يقول ابن عباس رضي الله عنه كانت قريش تطوف البيت عراة تَصفِر وتُصفِّق .
عنصرية الحُمْس في الحج (قبل الإسلام) تتضمن أمور منها:
1- الإفاضة دون الناس من مزدلفة لا من عرفات: فعرفات هو موقف الناس الجامع الذي لا حج بدونه، وبعد غروب شمس هذا اليوم يفيض الحجيج، أي يدفعون وينتقلون من عرفات إلى مزدلفة، وبعد شروق شمس العاشر يفيضون إلى مِنى.
لكن “الحُمْس” ميَّزوا أنفسهم عن الناس، وأفاضوا من مزدلفة، تاركين الوقوف بعرفة لغيرهم.
وجاء الإسلام فصحح الوضع، ووحد موضع إفاضة الناس، يقول ابن عباس: كانت العرب تقف بعرفة، وكانت قريش تقف دون ذلك بالمزدلفة، فأنزل الله: “ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ..” فرفع النبي- ﷺ- الموقف إلى موقف العرب بعرفة .
كما غيّر الإسلام موعد الإفاضة من المشعر الحرام (مزدلفة) حيث كانت العرب تنتظر طلوع الشمس، ثم تفيض؛ فأفاض النبي- ﷺ- قبل طلوعها. يقول عمر بن الخطاب –رضي الله عنه: “إن المشركين كانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس، ويقولون: أَشْرِقْ ثَبير (جبل بمكة) وأن النبي- ﷺ- خالفهم، ثم أفاض قبل أن تطلع الشمس” (رواه البخاري)، وفي هذا تثبيت لكراهية العبادة في هذا التوقيت؛ ابتعادًا عن شبه الوثنية والصابئة.
2- الطواف في ثيابهم وإلا عرايا:
وهذا “حق” آخر أعطاه الحُمْس أنفسهم من دون الناس؛ حيث لا يجوز لغيرهم أن يطوف إلا في ثيابهم هم، فإن خالفوا، وطافوا في غير ثياب الحُمْس، ألقوها بعد ذلك ولم ينتفعوا بها!! (انظر ابن هشام: 1/187).
قال عروة بن الزبير: “كان الناس يطوفون في الجاهلية عراة إلاَّ الحُمْس- والحُمْس قريش وما ولدت- وكانت الحُمْس يحتسبون على الناس، يعطي الرجلُ الرجلَ الثيابَ يطوف فيها، وتعطي المرأةُ المرأةَ الثيابَ تطوف فيها، فمَن لم يعطه الحُمْس طاف بالبيت عريانًا” (صحيح البخاري).
كان هذا نوعًا غريبًا من بدع الجاهلية؛ إذ يتناقض مع كرامة الإنسان وشرفه، وهما مما حرص عليه العرب في الجاهلية بقوة؛ ولكن ماذا نفعل وهذا شأن الإنسان إذا شرع لنفسه؟!.
وجاء الإسلام ليمحو تلك الأقذار، ويجعل الحج صورةً للمساواة بين الناس، بدلاً من كونه صورةً للعنصرية والتمييز بين العباد؛ فقد راح المؤذنون عام حجة أبي بكر بالناس (سنة 9 هجرية) يبلغونهم بتحريم الحج عرايا “ولا يطوف بالبيت عريان” (صحيح البخاري)؛ بل مُنِعَ الناس أيضًا من الحج في ثيابهم المعتادة، وفُرِضَ عليهم أن يلبسوا ملابس واحدة متشابهة، وهي ثياب الإحرام: رداء وإزار، ليست مُحِيطَة ولا مَخِيطة، كما نُهُوا عن تغطية رءوسهم إلاَّ النساء؛ فيلبسن ما اعتدْنَه من الملابس، ولا يكشِفْنَ سوى الوجه والكفين.
3- الحاج من أهل الحِلِّ لا يأكل من طعام جلبه من الحِلِّ إلى الحرم:
فقد ذكر ابن إسحاق عن الحُمْس أنهم قالوا: “لا ينبغي لأهل الحِلِّ أن يأكلوا من طعام جاءوا به معهم من الحِلِّ إلى الحرم، إذا جاءوا حُجَّاجًا أو عُمَّارًا”. ونزل القرآن يلغي هذه العادات الجاهلية في قول الله- عز وجل-: “يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّه لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ للَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَومَ القِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَومٍ يَعْلَمُونَ” فوضع الله- تعالى- أمر الحُمْس (سيرة ابن هشام 1/186-188).
4- الصفا والمروة:
السعي بين الصفا والمروة هو أحد أركان الحج الأربعة مع الإحرام والطواف بالكعبة والوقوف بعرفة، وقد سجّل الله هذا الركن في قوله: “إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَوَّفَ بِهِمَا…” (سورة البقرة 158).
وقد روى البخاري أن هذه الآية نزلت “في الذين كانوا يتحرجون أن يطوفوا في الجاهلية بالصفا والمروة، والذين كانوا يطوفون ثم تحرجوا أن يطوفوا بهما في الإسلام، من أجل أن الله أمَرَ بالطواف بالبيت ولم يذكر الصفا..” (كتاب الحج من صحيح البخاري).
ويبدو من الأحاديث والآثار العديدة الواردة في هذه المسألة، أن الذين تحرَّجوا من السعي بين الصفا والمروة في الجاهلية والإسلام، إنما فعلوا ذلك لأنهم كانوا في الجاهلية إذا بدءوا فأَهَلُّوا لبعض أصنامهم تحرجوا من السعي فامتد ذلك بهم إلى الإسلام فكان في الأنصار وغسان كما تقول عائشة- رضي الله عنها- أن “مَن أحرم لمناة لم يَطُفْ بين الصفا والمروة” (رواه مسلم).
وأما الذين تحرَّجوا من السعي بين الصفا والمروة في الإسلام وحده فذلك- كما يوضح حديث البخاري السابق- أتى مِن “أن الله- تعالى- أمر بالطواف بالبيت ولم يذكر الصفا”، ولعل مما قوَّى ذلك لديهم ما ارتبط بالصفا والمروة في الجاهلية من مظاهر وثنية؛ فقد قال عامر الشعبي: “كان على الصفا في الجاهلية صنم يُسمَّى “إسافا”، وعلى المروة صنم يسمى “نائلة”؛ فكانوا يمسحونهما إذا طافوا؛ فامتنع المسلمون من الطواف بينهما لأجل ذلك، فنزلت الآية” (تفسير القرطبي 1/560).
5- فلسفة التغيير:
حينما جاء الإسلام واجه ضراوة الجاهلية في محاولتها الحفاظ على كيانها دون أن تتعقل ما جاءها به الرسول من نهج يضبط سير الحياة وإيقاعها منفصلا عن المواريث الخاطئة، ويطلب الحق من منبعه الأصيل (الوحي الإلهي)، ويعد أصول المفاضلة بين الناس هي ما نبع من جهد الفرد وتميزه في التعامل الصحيح مع الكون وخالقه والناس من حوله.
أراد الإسلام حينما جاء أن يمحو الجاهلية وحساباتها من قلوب الناس، ويلغي الأفعال والعادات التي يرفضها الطبع المستقيم، مثل: وأد البنات، والطواف بالبيت عرايا.. ويحل محلها كل ما هو عظيم وسامٍ،كان لا بد للإسلام من اقتلاع جذور الوثنية والجاهلية التي زحفت حتى طوقت البيت الحرام، وشوهت فريضة الحج العظيمة.
وحينما غيّرت الرسالة الإسلامية الحياة، عمدت إلى الانحرافات العقائدية والشرور الأخلاقية؛ فمحتها، واحتفظت بالفضائل والأخلاق الحسنة، وأتم الإسلام ذلك كله، وأسَّسَه على الاعتقاد الصحيح الذي يحدد أسس التوجه الإنساني وغاياته.