من المعلوم أن المسلمين يعتمدون اللغة العربيّة حتمًا في القيام بالصلاة؛ التي تشتمل أيضًا ـ فيما سوى الأقوال ـ على حَركات فيها تعبير رمزي، وأنّهم يَتْلُون مقاطِع من القرآن، ويتلفَّظون بصيغ كلاميّة، تؤكِّد عظمة الله وخضوع الإنسان، يفعل ذلك العرب وغيرهم على السّواء، حتّى الذين لا يفهمون كلمةً من العربيّة، كان ذلك من عهد الرسول محمد ـ ﷺ ـ، ولا يزال كذلك، مهما اختَلفت الظروف والمواطِن واللُّغة الوطنيّةُ الأمُّ للمسلِم.
قد يبدو لأول نظرة طبيعيًّا ومستحسَنًا أن يوجِّه المؤمِن صلواته وأدعيته من أعماق ضميره وشعوره بما يقول، ولغة الأمِّ هي الوسيلة الفُضْلَى لهذه الغاية وقد يُتَصَوَّر من هذه الناحية أفضلية تأدية الصلاة باللغة التي يتكلَّمها المسلمون في الزوايا الأربع من العالم، ولكن اعتبارًا ونظرًا أعمق من ذلك، يظهر منه أن هناك أسبابًا وجيهة تُناقض هذا التفكير والتصوّر، أي: توجِب الاقتصار على اللغة العربية، وذلك للاعتبارات التالية:
1- فهناك أولاً مبرِّر اعتقادي (ميتافيزيكي) أو نفسي؛ ذلك أنه بمقتضَى نصِّ القرآن، قوله تعالى (النبيُّ أولَى بالمؤمنين من أنفسِهم وأزواجُه أمَّهاتُهم) (الأحزاب: 6) (33-6) تُعتبر زوجاتُ الرسول أمهاتٍ للمسلمين، ونحن نعلم أن جميع زوجاتِه المكرّمات يتكلْمن العربيّة، فبذلك تُعتبر اللغة العربية هي لغة الأم لجميع المسلمين، وحينئذٍ لا يبقَى مجال لأيّة ملاحظة قائمة على أساس ضرورة أداء الصّلوات بلغة الأمِّ .
2- وإذا اعتُبر هذا المبرِّر غيرَ كاف للإقناع، فإنّنا ننطلِق بالنّظر إلى ما هو أبعد، فنلاحِظ أنه بمقتضَى العقيدة الإسلامية يُعتبر القرآنُ كلام الله سبحانه، وأن تلاوته مُعتبرة بمقتضَى نصوصه نفسها من القربات المطلوبة. فمن الناحية الرُّوحيّة يَسيح المؤمِن سِياحة إلى الله تعالى بوساطة تلاوة كلامِه المقدّس.
والنصّ الأصلي لهذا الكلام الموحَى به إلى رسول الإسلام هو عربي، فمهما تكن الترجمة له من الدِّقّة بمكان، فإنها لا تخرج عن كونها من صنعة الإنسان وكلامه، وهذا لا يُمكن أبدًا أن يؤدِّيَ الغاية من تلك السّياحة الرُّوحيّة التي تتحقّق بالصّلاة.
3- وبالنسبة لمن يفتِّشون عن سبب أو مبرّر أقوى نقول: إنه يجِب التمييز الدقيق بين الصلاة بمعنى الدعاء، والصلاة بمعناها الخاصّ في صورة عبادة الله.
فأما الدعاء ـ وهو المعنى الأصلي العام للصلاة، غير الصورة الخاصة بعبادة الله، وهو ما يسمّى (مناجاة الله) ـ فإنه لا اعتراض أبدًا على حرية الإنسان في أن يوجه حاجاته وتوسُّلاته إلى ربِّه بأية لغة يختارها، وأي وضع يكون عليه؛ ذلك لأن هذه صلة شخصية خاصة بعلاقة فرديّة بين المخلوق والخالق.
أما الصلاة بمعناها الخاص ـ أي: العبادة المفروضة في صورتها الإسلامية المشروعة ـ فهي عمل عامٌّ ذو صفة جماعيّة، يجب النظر فيه إلى بقية الرِّفاق المُصاحِبين في صلاة الجماعة، فصلاة المسلِم هذه يجب مبدئيًا أن تؤدَّى بصورة مشترَكة مع الآخرين (جماعة)؛ ذلك لأن أداء الصلاة فرديًّا صحيح، ولكن المطلوب المفضَّل أداؤها بقيادة إمام (جماعة).
4- لو كان الإسلام دينًا إقليميًّا أو قوميًّا أو مرتَبِطًا بعِرق بشري، لكان من المحتَّم فيه أن تستعمل في الصلاة لغة ذلك الإقليم أو العِرق أو القوم، أما في ديانة عالمية، فالأمر بالعكس تمامًا، حيث يتكلَّم المؤمنون بها مئات اللغات المحليّة، ولا يفهم أحدهم لغةً سواه من الأجناس البشريّة الأخرى.
إن حياتَنا تزداد كل يوم اتِّساعًا نحو الصِّفة العالميّة، وإن كل بلد في الأرض يَستقبل فعلًا، ويُؤوي الكثيرَ من المسلمين من مختلِف المجموعات اللغويّة.
5- في الواقع لا يوجَد دين واحد على وجه الأرض سوى الإسلام يملِك اليوم النصَّ الأصليَّ للوحي الذي يقوم على أساسه، والنصوص الأصلية لتعليمات مؤسِّسه، فالمسيحيُّون واليهود والمزدكيون، وسواهم من الجَماعات الدينيّة، لا يوجَد لدى فئة منهم سوى ترجمة للنص الأصلي في ديانتهم، أو سوى قطع مُتفرِّقة منه على الأكثر، فأي سعادة أو ثقة تُعادل ما للمسلمين؛ الذين هم الاستثناء الوحيد من هذا الواقع؛ إذ يملِكون النصَّ الأصلي لوحي الإسلام، وهو القرآن الكريم؟!
6– علاوة على ما تقدَّم يُلحظ أن القرآن ـ وإن كان نثرًا ـ هو مشتمِل على جميع خصائص الشِّعر وعذوبته من الجَرْس اللّفظي، وتوافُق الفواصل، وجَزالة التعبير، وبلاغة الأداء.. بحيث إنَّ حذف حرف واحد من جملة، أو إضافة حرف إليها، يُورِّث فيه خَلَلًا واضطرابًا، كما لو حَصل ذلك الحذف أو الإضافة في بيت من الشعر المَوزون.
7- أي مسلِم لا يمكن أن يُعطِي أي ترجمة للقرآن من الاحترام الديني ما يُعطيه لنصِّ القرآن الأصلي الموحَى به من الله سبحانه إلى رسوله؛ ذلك لأن الترجمة هي صياغة شخص عادي، وليست صياغة جِهة معصومة محميّة من الخَطأ، كما هو الشّأن في نَبِيٍ.
8- وختامًا نشير إلى أنه يوجِد فريق من الكُتّاب يحتجُّون بأن بعض المُجتهدين الكِبار، كالإمام أبي حنيفة، كان يرى جواز تلاوة تَرجمة القُرآن في أداء الصّلاة، ولكن هؤلاء الكُتّاب ذكروا جانِبًا وأغفلوا جانِبًا آخَر، فإن الإمام أبا حنيفة، وإن كان قد رأى هذا الرأي في بداية أمره، قد رجع عنه بعد ذلك، ووافَق الأئمة الآخرين (وهذا هو المذكور في كتب المذهب الحنفي، ككتاب الهداية للمرغيناني، وكتاب الدر المختار للحصكفي، وحاشية رد المحتار وغيرها..) والإمام أبو حنيفة أيضًا يقول بأنّه في الحالات العادية الطّبيعيّة لا يجوز في الصّلاة تلاوة القرآن بغير العربيّة.
وفى الواقع يوجَد حكم استثنائي للضرورة كما في حال الشخص الذي يسلِم من جديد ولا يعرِف العربيّة، فهذا يجب عليه أن يبدأ فورًا بأداء الصلوات الخَمس يومِيًّا، وهي تشتمل على تلاوة إلزاميّة لقسم من القرآن حِفظًا عن ظهر قلب، فيُرَخَّص له بتلاوة معاني بعض الآيات باللغة التي يعرفها إلى أن يتعلّم ما يكفي للصلاة بالنص العربي.
وفي هذه المسألة يوجَد سابقة مُهِمّة من الصّحابي الجليل سلمان الفارسي الذي ترجَّم سورة الفاتحة إلى الفارسية، لكي ترسلَ إلى أناس من المؤمِنين الفُرس، وذلك بترخيص من الرسول نفسه (كما في كتاب تاج الشريعة، والنهاية حاشية الهداية: فصل الصلاة)، وهؤلاء الأعاجم استعملوا هذه التّرجمة إلى أن ائتلفت ألسنتُهم، ومَرِنَتْ على النصِّ العربي. وهكذا يمكن للمسلمين الجُدُد أن يستعملوا ترجمةَ القرآن بصورة مقبولة كأصله العربي مدّة أيّام أو لمدة أسابيعَ بحسب الحاجة والحال.
يُسْتَخْلَص من كلِّ ما تقدّم أن كلَّ مسلم بمقتضَى الوحي القرآني يَختار دائمًا اللغة العربيةَ، اللغةَ الأمَّ للرسول، وهكذا يظلُّ الإسلام المَصدرَ الحيّ الخالِدَ للغة العربيّة.
مترجم عن المجلة الفرنسية “فرنسا والإسلام” عدد آذار / 1967.