الاختلاف الذي نشأ بين الفقهاء عند ظهور التدخين، ليس خلافا في أدلة الأحكام، ولكنه خلاف حول ثبوت الضرر في التدخين أم لا، وثبوت الضرر في التدخين لا يرجع إلى الفقهاء، وإنما يرجع إلى الأطباء، وقد أثبت الطب أضرار التدخين، ومن هنا، فإن الخلاف في حكم التدخين يرتفع، ليكون هو الحرمة، لثبوت الضرر، ولاتفاق الفقهاء أن ما ثبت ضرره، ثبتت حرمته.
يقول فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي:
الخلاف المنقول عن علماء المذاهب عند ظهور الدخان، وشيوع تعاطيه، واختلافهم في إصدار حكم شرعي في استعماله، ليس منشؤه في الغالب اختلاف الأدلة، بل الاختلاف في تحقيق المناط.
أعني أنهم متفقون على أن ما يثبت ضرره على البدن أو العقل يحرم تعاطيه..
ولكنهم يختلفون في تطبيق هذا الحكم على الدخان.
فمنهم من أثبت له عدة منافع في زعمه. ومنهم من أثبت له مضار قليلة تقابلها منافع موازية له. ومنهم من لم يثبت له أية منافع، ولكن نفى عنه الضرر. وهكذا.
ومعنى هذا أنهم لو تأكدوا من وجود الضرر في هذا الشيء لحرموه بلا جدال.
وهنا نقول: إن إثبات الضرر البدني أو نفيه في “الدخان” ومثله مما يتعاطى ليس من شأن علماء الفقه، بل من شأن علماء الطب والتحليل. فهم الذين يسألون هنا، لأنهم أهل العلم والخبرة. قال تعالى:( فاسأل به خبيرًا ) الفرقان:59. وقال : ( ولا ينبئك مثل خبير ) فاطر:14.
أما علماء الطب والتحليل فقد قالوا كلمتهم في بيان آثار التدخين الضارة على البدن بوجه عام، وعلى الرئتين والجهاز التنفسي بوجه خاص. وما يؤدي إليه من الإصابة بسرطان الرئة مما جعل العالم كله في السنوات الأخيرة يتنادى بوجوب التحذير من التدخين.
على أن من أضرار التدخين ما لا يحتاج إثباته إلى طبيب اختصاصي ولا إلى محلل كيماوي، حيث يتساوى في معرفته عموم الناس، من مثقفين وأميين.
وينبغي أن نذكر هنا ما نقلناه من قبل عن بعض العلماء، وهو أن الضرر التدريجي كالضرر الدفعي الفوري، كلاهما مقتض للتحريم. ولهذا كان تناول السم السريع التأثير في الصدر والسم البطيء التأثير حرامًا بلا ريب.
وعلى هذا القول: إن اختلاف علماء الفتوى في التحريم والإباحة في نبات الدخان إنما هو بناء على ما ثبت لدى كل منهم من الأضرار أو عدمه.
أما ما يقوله بعض الناس: كيف تحرمون مثل هذا النبات بلا نص ؟
فالجواب : أنه ليس من الضروري أن ينص الشارع على كل فرد من المحرمات، وينبغي أن يضع ضوابط أو قواعد تندرج تحتها جزئيات شتى، وأفراد كثيرة. فإن القواعد يمكن حصرها ، أما الأفراد فلا يمكن حصرها.
ويكفي أن يحرم الشارع الخبيث أو الضار، ليدخل تحته ما لا يحصى من المطعومات والمشروبات الخبيثة أو الضارة، ولهذا أجمع العلماء على تحريم الحشيشة ونحوها من المخدرات، مع عدم وجود نص معين بتحريمها على الخصوص.
وهذا الإمام أبو محمد بن حزم الظاهري، نراه متمسكًا بحرفية النصوص وظواهرها ، ومع هذا يقرر تحريم ما يستضر بأكله، أخذا من عموم النصوص. قال: وأما كل ما اضر فهو حرام لقول النبي ﷺ: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء .. فمن أضر بنفسه أو بغيره فلم يحسن، ومن لم يحسن فقد خالف كتاب( أي كتابه) الله الإحسان على كل شيء) (انظر:المحلى ج7ص504-505، المسألة 1030ط.الإمام.)
ويمكن أن يستدل لهذا الحكم أيضًا بقوله ﷺ:(لا ضرر ولا ضرار). كما يمكن الاستدلال بقوله تعالى:(ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا ) النساء:29.
ومن أجود العبارات الفقهية في تحريم تناول المضرات عبارة الإمام النووي في روضته قال:( كل ما أضر أكله كالزجاج والحجر والسم، يحرم أكله. وكل طاهر لا ضرر في أكله يحل أكله إلا المستقذرات الطاهرات، كالمني والمخاط. فإنها حرام على الصحيح .. إلى أن قال: ويجوز شرب دواء فيه قليل من سم إذا كان الغالب السلامة، واحتيج إليه.
ومن الناس من يتمسك هنا بقاعدة: الأصل في الأشياء الإباحة إلا ما نص الشرع على تحريمه.
والرد على هؤلاء أن من علماء الأصول من عكس ذلك فقال: الأصل في الأشياء الحظر إلا ما جاء الشرع بإباحته..
والصحيح من قول هؤلاء وهؤلاء التفصيل. فالأصل في المنافع الإباحة، لقوله تعالى في معرض الامتنان على عباده:( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا ) البقرة :29 ولا يمتن عليهم بما هو محرم عليهم.
وأما المضار، وهي: ما يؤذي البدن أو النفس أو هما معًا. فالأصل فيها الحظر والتحريم.
على أن في (التدخين) نوعًا من الضرر يجب ألا يغفل، وهو ضرر يقيني لا شك فيه، وهو الضرر المالي. وأعني به إنفاق المال فيما لا ينفع بحال، لا في الدنيا ولا في الدين ، ولا سيما مع غلاء أثمانه، وإسراف بعض هواته في تناوله، حتى إن أحدهم قد ينفق فيه ما يكفي لإعاشة أسرة كاملة.
أما ما يجده بعض الناس من راحة نفسية في التدخين، فليس منفعة ذاتية فيه، وإنما ذلك لاعتياده عليه، وإدمانه له. فهو لهذا يرتاح لاستعماله. شأن كل ما يعتاد الإنسان تعاطيه مهما كان مؤذيًا وضارًا غاية الضرر.
وقد قال الإمام إبن حزم في “محلاه”( المحلى:ج7ص503،مسألة 1027.): السرف حرام . وهو:
1. النفقة فيما حرم الله تعالى، قلت أو كثرت، ولو أنها جزء من قدر جناح بعوضة.
2. أو التبذير فيما لا يحتاج إليه ضرورة، مما لا يبقى للمنفق بعده غنى.
3. أو إضاعة المال وإن قل برميه عبثًا…
قال الله تعالى: ( ولا تسرفوا ، إنه لا يحب المسرفين ) اهـ. ولا يخفى أن إنفاق المال في التدخين إضاعة له.
وقد أعجبني مما نقلته من قبل قول أحد العلماء: لو اعترف شخص أنه لايجد في التدخين نفعًا بوجه من الوجوه، فينبغي أن يحرم عليه. من حيث أنه إضاعة للمال . إذًا لا فرق في حرمة إضاعته بين إلقائه في البحر، وإحراقه بالنار، أو غير ذلك من وجوه الإتلاف.
فكيف إذا كان مع الإتلاف للمال ضرر يقينًا أو ظنًا ؟. أي أنه اجتمع عليه إتلاف المال وإتلاف البدن معًا.
فواعجبًا لمن يشتري ضرر بدنه بحر ماله طائعًا مختارًا.
وهناك ضرر آخر، يغفل عنه عادة الكاتبون في هذا الموضوع وهو الضرر النفسي، وأقصد به، أن الاعتياد على التدخين وأمثاله، يستعبد إرادة الإنسان، ويجعلها أسيرة لهذه العادة السخيفة. بحيث لا يستطيع أن يتخلص منها بسهولة إذا رغب في ذلك يومًا لسبب ما. كظهور ضررها على بدنه، أو سوء أثرها في تربية ولده، أو حاجته إلى ما ينفق فيها لصرفه في وجوه أخرى أنفع وألزم، أو نحو ذلك من الأسباب.
ونظرًا لهذا الاستعباد النفسي، نرى بعض المدخنين، يجور على قوت أولاده، والضروري من نفقة أسرته، ومن أجل إرضاء مزاجه هذا، لأنه لم يعد قادرًا على التحرر منه.
وإذا عجز مثل هذا يومًا عن التدخين، لمانع داخلي أو خارجي، فإن حياته تضطرب، وميزانه يختل، وحاله تسوء، وفكره يتشوش، وأعصابه تثور لسبب أو لغير سبب.
ولا ريب أن مثل هذا الضرر جدير بالاعتبار في إصدار حكم على التدخين.
ويتبين من هذا التمحيص الذي ذكرناه: أن إطلاق القول بإباحة التدخين لا وجه له، بل هو غلط صريح، وغفلة عن جوانب الموضوع كله، ويكفي ما فيه من إضاعة لجزء من المال فيما لا نفع فيه وما يصحبه من نتن الرائحة المؤذية، وما فيه من ضرر بعضه محقق، وبعضه مظنون أو محتمل.
وإن كان لهذا القول وجه فيما مضى، عند ظهور استعمال هذا النبات في سنة ألف من الهجرة، حيث لم يتأكد علماء ذلك العصر من ثبوت ضرره، فليس له أي وجه في عصرنا بعد أن أفاضت الهيئات العلمية الطبية في بيان أضراره، وسيء آثاره، وعلم بها الخاص والعام، وأيدتها لغة الأرقام.
وإذا سقط القول بالإباحة المطلقة. لم يبق إلا القول بالكراهة أو القول بالتحريم.
وقد اتضح لنا مما سبق أن القول بالتحريم أوجه وأقوى حجة. وهذا هو رأينا. وذلك لتحقق الضرر البدني والمالي والنفسي باعتياد التدخين.
وإذا قيل بمجرد الكراهة، فهل هي كراهة تنزيه أو تحريم ؟ الظاهر الثاني.
نظراً لقوة الاعتبارات والأدلة التي أدت إلى القول بالتحريم فمن أنزل الحكم عن الحرام لم ينزل عن درجة المكروه التحريمي.
ومهما يكن فمن المقرر أن الإصرار على الصغائر يقربها من الكبائر. ولهذا أخشى أن يكون الإصرار على المكروه مقربًا من الحرام.
على أن هناك ملابسات واعتبارات تختص ببعض الناس دون بعض، تؤكد الحرمة وتغلظها كما تؤكد الكراهة عند من قال بالكراهية، بل تنقلها إلى درجة التحريم.
وذلك مثل أن يضر الدخان شخصًا بعينه، حسب وصف طبيب ثقة، أو حسب تجربة الشخص نفسه ، أو حسب تجربة آخرين في مثل حاله.
ومثل أن يكون محتاجًا إلى ثمنه لنفقته أو نفقة عياله، أو من تجب عليه نفقتهم شرعًا(وينبغي أن يذكر هنا أيضًا ملايين من المسلمين يموتون من الجوع -حقيقة لا تجوزًا- على حين تنفق عشرات الملايين في شهوة التدخين.)
ومثل أن يكون الدخان مستوردًا من بلاد تعادي المسلمين، ويذهب ثمنه لتقويتها على المسلمين.
ومثل أن يصدر ولي الأمر الشرعي أمرًا بمنع التدخين، وطاعته واجبة فيما لا معصية فيه.
ومثل أن يكون الشخص مقتدى به في علمه ودينه، مثل علماء الدين، ويقرب منهم الأطباء.
هذا وينبغي أن نضع في اعتبارنا ونحن نصدر حكمًا بشأن التدخين عدة أمور لابد من مراعاتها، لتكون نظرتنا شاملة وعادلة.
الأولى: أن من المدخنين من يتمنى الخلاص من التدخين، ولكنه عجز عن تحقيق ذلك لتمكن هذه العادة من جسمه وأعصابه تمكنًا لم يجعل لإرادته قدرة على التحرر منه، بحيث يصيبه أذى كثير إذا تركه. فهذا معذور بقدر محاولته وعجزه، ولكل امريء ما نوى.
الثانية: أن ميلنا إلى تحريم التدخين لما ذكرنا من وجهة النظر والاعتبارات الشرعية، لا يعني أنه مثل شرب الخمر أو الزنى أو السرقة مثلا، فإن الحرام في الإسلام درجات، بعضها صغائر، وبعضها كبائر، ولكل حكمه ودرجته. فالكبائر لا تكفرها إلا التوبة النصوح، أما الصغائر فتكفرها الصلوات الخمس، وصلاة الجمعة، وصيام رمضان وقيامه، وغير ذلك من الطاعات، بل يكفرها مجرد اجتناب الكبائر.
وقد جاء عن ابن عباس وبعض السلف أن الإصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة. ولكن هذا أيضًا غير متفق عليه.
الثالثة: أن المحرم المختلف فيه ليس في درجة الحرام المتفق عليه. ولهذا يصعب أن ترمي فاعله بالفسوق، وأن تسقط شهادته، ونحو ذلك، وخصوصًا إذا كان مما عمت به البلوى.
وإن ما يقال من أن كثير من علماء الدين يدخنون، فإن هؤلاء العلماء لم يدَّعوا لأنفسهم العصمة، وكثير منهم ابتلوا به في مرحلة الشباب والطيش، ثم ضعفت إرادتهم عن التخلص من نيره، ومنهم من أفتى بحرمته رغم أنه مبتلى بتعاطيه.
وقد رأينا من الأطباء أيضًا كثيرين يؤمنون بأضرار التدخين، ويتحدثون أو يكتبون في ذلك، ومع ذلك لم يقلعوا عن التدخين.
وإذا كان التدخين مذمومًا في شأن الرجال، فهو أشد ذمًا في شأن النساء، لأنه يشوه جمال المرأة، ويغير لون أسنانها، ويجعل رائحة فمها كريهة. مع ما يجب أن تكون عليه الأنثى من حسن وجمال.
ونصيحتي لكل مدخن، أن يقلع عن هذه الآفة، بعزيمة قوية، وتصميم صارم، فإن التدرج فيها لا يغني.
ومن كان ضعيف الإرادة، عليه أن يقلل من شرها ما استطاع، ولا يحسنها لغيره، ولا يغري بها أحدًا، كأن يقدمها للآخرين، أو يلح على زواره بتناولها، بل ينبغي أن يبين لغيره أضرارها المالية والبدنية والنفسية، وأقرب هذه الأضرار أنه أصبح عبدًا لها، بحيث لم يستطع أن يتخلص منها، وعليه أن يسأل الله تعالى أن يعينه على التحرر من نيرها.
ونصيحتي للشباب خاصة، أن ينزهوا أنفسهم عن الوقوع في هذه الآفة، التي تفسد عليهم صحتهم، وتضعف من قوتهم ونضرتهم، ولا يسقطوا فريسة للوهم الذي يخيل إليهم أنها من علامات الرجولة، أو استقلال الشخصية .ومن تورط منهم في ارتكابها يستطيع بسهولة التحرر منها، والتغلب عليها وهو في أول الطريق ، قبل أن تتمكن هي منه ، وتتغلب عليه، ويعسر عليه فيما بعد النجاة من براثنها إلا من رحم ربك.