من معالم المساجد التي أصبحت مميزة لها على مر العصور: المحراب، والمنبر، والمنارة أي المئذنة.
المحراب:
أما المحراب، فالمراد به: المكان الذي يخصص في صدر المسجد لصلاة الإمام فيه.
سمي محرابا لأنه أشرف المجالس في المسجد. ومنه قيل للقصر: محراب، لأنه أشرف المنازل. وقال أحمد بن عبيد: المحراب مجلس الملك، سمي بذلك لانفراد الملك فيه، ولتباعد الناس منه. وكذلك محراب المسجد، لانفراد الإمام فيه.
ومن المعروف: أن المسجد النبوي لم يكن به محراب في عهد رسول الله ، ولا في عهد الخلفاء الراشدين من بعده. وأول من اتخذ المحراب: عمر بن عبد العزيز، حين كان واليا على المدينة المنورة، في عهد الوليد بن عبد الملك. وقد هدم المسجد الشريف، وجدده وزاد فيه، وتم ذلك سنة إحدى وتسعين للهجرة-كما قيل، وهي السنة التي حج فيها الوليد.
ونظرا لأن المحاريب لم تكن في عصر النبوة ولا الخلافة الراشدة، ولم تجىء فيها سنة قولية ولا عملية ولا تقريرية، فقد اختلف الفقهاء في حكمها، ما بين مجيز لها وكاره لبنائها، ومفصل في الحكم.
قال الحنابلة: اتخاذ المحراب مباح. نص عليه. وقيل: يستحب، أومأ إليه أحمد، واختاره الآجري وابن عقيل وابن الجوزي وابن تميم، ليستدل به الجاهل. وكان أحمد يكره كل محدث، واقتصر ابن البناء عليه، فدل على أنه قال به.
وقال الزركشي في إعلام الساجد: كره بعض السلف اتخاذ المحاريب في المساجد.
وعبارة الحنفية والمالكية تدل على إباحته.
قال ابن عابدين الحنفي: إن الإمام (الراتب) لو ترك المحراب)، وقام في غيره يكره، ولو كان وسط الصف، لأنه خلاف عمل الأمة.
وقال الدسوقي المالكي: المشهور أن الإمام يقوم في المحراب حال صلاته الفريضة كيف اتفق.
وقال الشافعية: لا تكره الصلاة في المحراب، ولم يزل عمل الناس عليه من غير نكير.
وهذا هو الذي ينبغي اعتماده: أن لا كراهة في اتخاذ المحراب في المسجد، بل ينبغي اعتماد ما قاله بعض الحنابلة من استحبابه، لما له من فوائد عدة، فهو دليل على جهة القبلة، لأي داخل للمسجد، بل حتى لمن هو خارج المسجد، ثم هو يوفر صفا يحتاج إليه المصلون في صلاة الجمعة ونحوها، فإن الإمام إذا صلى في المحراب بدأت الصفوف من خلفه، وإلا أخذ وحده صفا كاملا.
وترك الرسول والخلفاء الراشدون إقامة المحاريب في زمانهم، لأنهم لم تبد لهم بها حاجة، ولم يقترحها أحد عليهم، كما اقترح المنبر على النبي ، والترك إنما يكون بدعة إذا توافرت الدواعي على فعله في عصر النبوة وامتنع عن فعله. فأما مجرد الترك فلا. فكم من أشياء لم يفعلها النبي وفعلها الراشدون، مثل توسعة مسجده عليه السلام، وبنائه بالحجارة المنقوشة، كما فعل عثمان وأقره الصحابة، ومثل اتخاذه أذانا آخر بالزوراء يوم الجمعة، حين اتسعت المدينة وكثر الناس.
ولم أر عالما في عصرنا ينكر إقامة المحاريب في المساجد، بل استقر هذا منذ قرون من غير نكير من أحد يعتد به وقد صنف الإمام السيوطي رسالة في شأن بناء المحاريب.
وكره بعض العلماء الكتابة في المحراب: آية من القرآن أو نحوها. ونقل ذلك عن مالك.
قال الزركشي: وجوزه بعض العلماء. وقال: لا بأس به لقوله تعالى: ” إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر…الآية ” التوبة:18 ولما روي من فعل عثمان بالمسجد النبوي(أنه بناه بالحجارة المنقوشة) ولم ينكر ذلك.
وهذا هو الذي نرجحه، ولم يزل المسلمون منذ قرون يكتبون آيات في المحاريب، ويزخرفونها، ولكن ينبغي الاعتدال في ذلك ما أمكن، حت لا تشغل الإمام والمصلين خلفه.
المنبر:
أما المنبر، فهو الموضع الذي يقوم عليه الإمام لخطبة الجمعة، التي هي الموعظة الأسبوعية المفروضة، وهي شرط لصحة صلاة الجمعة، وتتكون من خطبتين: أولى وثانية. يذكر الخطيب فيهما الناس بتقوى الله تعالى، وبالدار الآخرة، وبواجباتهم نحو ربهم، ونحو أنفسهم، ونحو أسرهم، ونحو إخوانهم، ونحو أمتهم، ونحو الناس من حولهم، بل نحو غير المسلمين، بل نحو الحيوانات العجماوات. ويعلمهم الإسلام الصحيح، كما أنزله الله تعالى، وكما دعا إليه رسوله الكريم، وينفي عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.
ولقد كان النبي ﷺ يخطب في أول أمره في مسجده الشريف على جذع نخلة، فلما كثر الناس قالت امرأة من الأنصار: يا رسول الله، ألا أجعل لك شيئا، تقعد عليه، فإن لي غلاما نجارا؟ قال: ((إن شئت فعلت المنبر))
وفي رواية أنها قالت: ألا أجعل لك منبرا؟
وقد قام هذا النجار بصنع منبره عليه الصلاة والسلام من أثل الغابة، كما روى سهل بن سعد. وقام عليه رسول الله ﷺ، حين عمل ووضع، وكان الرسول يصلي على المنبر نفسه، ثم عند السجود، يرجع ويسجد على الأرض.
وقد وردت أحاديث تدل على أن هذا المنبر كان يتكون من ثلاث درجات، أو ثلاث عتبات.
وقد ذهب بعض المسلمين في عصرنا إلى وجوب الالتزام بذلك، واعتبروا كل منبر يزيد على ثلاث درجات بدعة، وكل بدعة ضلالة.
والحق أن هذه سنة فعلية، لا تدل على أكثر من المشروعية، ولم يأت دليل يبين أن هذه الدرجات الثلاث كانت مقصودة، بحيث لا يجوز الزيادة عليها، ويبدو أن هذا كان من صنع النجار الذي صنع المنبر، ولم تصح رواية بأن الرسول أمره أن يكون من ثلاث درجات وحتى لو ثبت ذلك، فهذا كان بقدر الحاجة في ذلك الوقت، والحاجة تتطور بتطور الإنسان، وتغير الظروف، وقد كان النبي عليه الصلاة يصلي على الجذع أولا، فاقتضت الحاجة إلى المنبر، فصنع المنبر بهذه الكيفية، ولو اقتضت الحاجة تعلية المنبر، فلا مانع من فعلها.
والمسلمون على مر العصور زادوا على الدرجات الثلاث في المنبر، بحسب اتساع مساجدهم، وحاجتهم إلى ارتفاع موضع الخطيب، حتى يراه الناس، ولم ينكر العلماء على هذا الأمر، وقد كان منبر صلاح الدين في المسجد الأقصى أكثر من ثلاث درجات، وقد صنعه وجمله بما يناسب المسجد الذي تشد الرحال إليه. وكان من حوله أفاضل العلماء ولم ينكروا عليه.
ومن عيوب المنبر الكبير: أنه يقطع الصفوف، ولهذا أفضل في عصرنا طريقة أهل الخليج في بناء المنبر في المحراب، فيدخل الخطيب من المحراب ويصعد على المنبر، ويشرف على الناس، دون أن يحتاج إلى قطع الصفوف.
المنارة:
المنارة –أو المئذنة- أصبحت من المعالم البارزة أو المميزة للمساجد، خصوصا الكبيرة منها، بل غدت في الواقع من المعالم المميزة للهوية الإسلامية للبلد أو المكان الذي تعلو فيه.
ولم تكن للمسجد النبوي عندما بناه الرسول ﷺ والخلفاء الراشدون من منارة أو مئذنة، إذ لم تظهر حاجتهم إليها في ذلك الوقت. وإن كان عثمان رضي الله عنه قد أحدث شيئا لم يكن قبله، اقتضته الحاجة، من اتساع المدينة وتكاثر الناس. فقد روى عبد الرزاق في مصنفه عن ابن جريح قال: أخبرني عمرو بن دينار أن عثمان أول من زاد الأذان الأول يوم الجمعة لما كثر الناس زاده، فكان يؤذن به على الزوراء.
وروى عن ابن المسيب قال: كان الأذان في يوم الجمعة على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر وعمر أذانا واحدا، حتى يخرج الإمام، فلما كان عثمان كثر الناس، فزاد الأذان الأول، وأراد أن يتهيأ الناس للجمعة.
فلما استبحر العمران، وكثر الناس، واتسعت المدن في عالم الإسلام، فكروا في بناء المنائر أو المآذن، ليصعد عليها المؤذن، ويرفع صوته عاليا، فيدوي في الأفاق، ويسمع أكبر عدد من الناس، فيلبون نداء الله لهم: حي على الصلاة، حي على الفلاح، وقد جرى العمل على ذلك منذ قرون، في كل أقطار الإسلام، وحيثما وجد المسلمون، ومن غير نكير من أحد.
بل إن هذه المآذن لتضاء في المناسبات الدينية المختلفة مثل شهر رمضان– بما يضفي على الحياة الإسلامية جوًا غير عادي، يشعر به كل إنسان بمجرد الرؤية.
وربما يقال في عصرناّ إن المنائر أو المآذن –لم يعد لها حاجة، بعد عصر مكبرات الصوت (الميكروفونات) التي تنقل الأذان إلى مسافات بعيدة دون حاجة إلى منارة عالية.
وهذا صحيح، ولكن مهمة المنارة لم تعد اليوم إبلاغ صوت المؤذن إلى ساحة أوسع، بل أمست –كما قلنا- معلما من المعالم المظهرة للإسلام، والمعلنة عن هوية المسلمين، المبرزة لشخصيتهم المتميزة. ولهذا رأينا المسجد الحرام، والمسجد النبوي –في توسعتهما الهائلة الرائعة- يزينان بالمآذن من سائر النواحي، فتضفي على الحرمين الشريفين مزيدًا من البهاء والجمال والجلال.
وهذا بالطبع في حدود القدرة المادية، فإذا كان الإنفاق على بناء المئذنة سيؤثر على بناء المسجد الذي يحتاج إليه في الصلاة، فالصرف على المسجد مقدم، وهو أولى بلا نزاع.