التوبة من شهادة الزور لابد فيها من إصلاح ما أفسد شاهد الزور في شهادته، وأن يقر بأنه شهد زورا، وأن يضمن ما تسبب في ضياع الحقوق من الأموال أو غيرها، أو أن يستسمح من تسبب في ظلمه، ولا يكون الحج سببا في غفران ضياع حقوق الناس، فلابد من الاعتراف بشهادة الزور أمام الجهات المختصة، أو استسماح من ظلمه بشهادة الزور.
ومن المعلوم أن شهادة الزور من الكبائر العظام، وقد جاء النهي عن شهادة الزور مقرونا بالنهي عن الشرك بالله تعالى، فقد روى الإمام أحمد والترمذي عن أيمن بن خريم ، وابن ماجة وأحمد وأبوداود عن خريم بن فاتك قال: صلى بنا رسول الله ﷺ صلاة الصبح ثم قال : يا أيها الناس عدلت شهادة الزور إشراكا بالله ثم قرأ فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور.
وروى البخاري واللفظ له، وأحمد ومسلم والترمذي وغيرهم عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه رضي الله عنه قال:
قال النبي ﷺ: (أكبر الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور، وشهادة الزور – ثلاثاً – أو: قول الزور). فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت.
ورى بن اماجة عن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ: لن تزول قدم شاهد الزور حتى يوجب الله له النار.
قال الإمام الشوكاني تعليقا على حديث ابن ماجة:
قوله: ( حتى يوجب الله له النار ) في هذا وعيد شديد لشاهد الزور حيث أوجب الله له النار قبل أن ينتقل من مكانه، ولعل ذلك مع عدم التوبة. أما لو تاب وأكذب نفسه قبل العمل بشهادته فالله يقبل التوبة عن عباده. انتهى
وتأتي عظم كبيرة شهادة الزور من كونها تضيع حق للغير، وقد تحل دم امرئ مسلم بغير وجه حق، ويختلف إثم شهادة الزور حسب الحق المضاع، أو الدم المهدر، فيكون بحسب كل حالة، وحد شهادة الزور التعزير الذي يراه الحاكم أو القاضي مناسبا لحال الحادثة التي وقعت فيها شهادة الزور.
وقد اختلف الفقهاء في قبول شاهد الزور بعد التوبة، فالجمهور على أنه تقبل توبته وشهادته، ويرى بعض المالكية أنه لا تقبل له شهادة ولو بعد التوبة، لاحتمال أن يعود إلى ذلك مرة أخرى.
والراجح أنه تقبل توبة شاهد الزور ،كما تقبل شهادته، لعموم النصوص التي تدل على قبول التوبة ،بشرط أن يحسن حاله .
ومن المعلوم أن التوبة لابد لها من شروط، من الندم والإقلاع عن الذنب، وعدم العودة إليه، وإن كان محل شهادة الزور يتعلق بحق آدمي فلابد من أن يستسمح صاحبه فيه، فإن كان حق ضاع بسبب شهادة شاهد الزور، فالواجب الرجعوع عن الشهادة، أو يستسمح صاحب الحق حتى تقبل توبته، أو يدفع له المال إن كان تسبب في ضياعه.
قال ابن فرحون المالكي في تبصرة الحكام:
إذا رجع الشهود عن الشهادة بعد أدائها وقبل الحكم بها، واعترفوا بشهادة الزور وأنهم تابوا، فإن شهادتهم لا توجب شيئا، وفي تأديبهم خلاف، وأما لو رجعوا بعد الحكم بها إما في مال أو في نفس أو حد من قطع أو قذف أو شتم، فإن أخبروا عن غلط غرموا المال ودية المتلف، وإن أخبروا عن تعمد كذب غرموا المال. واختلف في إلزام القصاص في المتلف بالقطع والقتل ونحوهما، أو الدية. انتهى.
وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي:
فإذا تاب شاهد الزور، وأتت على ذلك مدة تظهر فيها توبته، وتبين صدقه فيها، وعدالته، قبلت شهادته. وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وأبو ثور وقال مالك : لا تقبل شهادته أبدا، لأن ذلك لا يؤمن منه. ولنا أنه تائب من ذنبه، فقبلت توبته، كسائر التائبين. انتهى.
وقال ابن فرحون المالكي أيضا:
شاهد الزور لا تصح شهادته وإن تاب وحسنت حاله، وروى أبو زيد عن القاسم: أن شهادته تجوز إذا تاب وعرفت توبته بتزيد حاله في الصلاح، قال ولا أعلمه إلا في قول مالك، فقيل: إن ذلك اختلاف من القول، وقيل: معنى رواية أبي زيد، إذا جاء تائبا مقرا على نفسه بشهادة الزور قبل أن يظهر عليه، وهو الأظهر .
وفي الموسوعة الفقهية الكويتية:
ذهب الحنفية والشافعية والحنابلة وأبو ثور: إلى أنه إذا تاب شاهد الزور وأتت على ذلك مدة تظهر فيها توبته، وتبين صدقه فيها وعدالته، قبلت شهادته. لقوله تعالى: { إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا }. ولأن النبي ﷺ قال: { التائب من الذنب كمن لا ذنب له }. ولأنه تائب من ذنبه، فقبلت توبته كسائر التائبين. ومدة ظهور التوبة عندهم سنة، لأنه لا تظهر صحة التوبة في مدة قريبة، فكانت أولى المدد بالتقدير سنة، لأنه تمر فيها الفصول الأربعة التي تهيج فيها الطبائع وتتغير فيها الأحوال.
وقال البابرتي من الحنفية: مدة ظهور التوبة عند بعض الحنفية ستة أشهر، ثم قال: والصحيح أنه مفوض إلى رأي القاضي . وقال المالكية : إن كان ظاهر الصلاح حين شهد بالزور لا تقبل له شهادة بعد ذلك لاحتمال بقائه على الحالة التي كان عليها، وإن كان غير مظهر للصلاح حين الشهادة ففي قبولها بعد ذلك إذا ظهرت توبته قولان.
والخلاصة: أن شاهد الزور تصح في حقه التوبة، بل هو أمر مطلوب منه، تحث عليه آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة التي تدعو إلى التوبة الصادقة، ولكن لابد من إقراره أنه كان قد شهد زورا، وأن يضمن ما قد تسبب عنه إن كان حقا ماديا، أو يعتذر إن كان حقا معنويا، أما حجه فإن الحج لا يكفر ما ارتكب الإنسان من كبائر تتعلق بحق الغير، فلابد من إعادة حقهم، أو استسماحهم في هذا الحق.