تكاد تتفق كلمة الفقهاء على أن من حق الأب أن يزوج ابنته الصغيرة غير البالغة، وذلك راجع لولايته عليها، فكما هو قائم على مالها، وتوجيهها ، فكذلك هو قائم على ما يراه من مصلحتها في مسألة الزواج .
ومن المهم أن نفهم أن تزويج الأب لابنته الصغيرة ليس واجبا، ولكنه مقيد بالمصلحة، أي أنه لا يجوز له ذلك إلا إذا رأى أن المصلحة تقتضي ذلك، والله حسيبه على ذلك.
وقد تتصور المصلحة مثلا بأن لا يكون للبنت من بعد الأب أخ مثلا فيخشى عليها أبوها من بعده فيزوجها لرجل من أهل الصلاح .
ولا ننسى أن البنت قديما ما كان يتصور، ولا ينتظر لها سوى الزواج، فلم تكن رهن كلية ولا مدرسة تنتظر التخرج فيها، فإذا اكتملت أنوثتها ونضجت فعلام الانتظار؟
ولا ننسى كذلك أن الثقافة وقتها كانت محدودة، فقد كان بمقدورها أن تحيط بها في سن صغيرة، ولم يكن الحال كما هو عليه الآن من أن الولد ذكرا، أو أنثى يظل يتعثر في القراءة والكتابة حتى يجاوز العاشرة .
ففي الوقت الذي نرى فيه أولادنا الآن في عداد الأميين وهم قيد المدارس حتى العاشرة فإن الولد ساعتها ذكرا كان أو أنثى كان يتم حفظ القرآن قبل أن يجاوز التاسعة، ويحفظ من شعر العرب ونثرهم ما يكون ثقافة يفتقدها رجال اليوم فضلا عن أطفالهم .
ومن المهم كذلك أن نعرف أن الفقهاء وإن أجازوا تزويج الصغيرة فإنهم منعوا زوجها أن يعاملها معاملة الأزواج حتى تطيق الوطء ، وهذا يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والبيئات .
ويرى الدكتور الزرقا – رحمه الله- من كبار علماء سوريا: أن تحديد سن معين للزواج من صلاحيات ولي الأمر ، وعلى الرعية أن تلتزم بذلك . أ.هـ
قال ابن قدامة الحنبلي في كتابه المغني:-
ليس لغير الأب إجبار كبيرة، ولا تزويج صغيرة، جدا كان أو غيره . وبهذا قال مالك، وأبو عبيد والثوري، وابن أبي ليلى . وبه قال الشافعي إلا في الجد ، فإنه جعله كالأب; لأن ولايته ولاية إيلاد، فملك إجبارها كالأب .
وقال الحسن، وعمر بن عبد العزيز، وعطاء، وطاوس، وقتادة، وابن شبرمة، والأوزاعي، وأبو حنيفة: لغير الأب تزويج الصغيرة، ولها الخيار إذا بلغت. وقال هؤلاء غير أبي حنيفة: إذا زوج الصغيرين غير الأب، فلهما الخيار إذا بلغا .
قال أبو الخطاب :وقد نقل عبد الله، عن أبيه، كقول أبي حنيفة ; لأن الله تعالى قال: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ) (النساء 3 ). فمفهومه أنه إذا لم يخف، فله تزويج اليتيمة ، واليتيم من لم يبلغ ; لقول النبي ﷺ : (لا يتم بعد احتلام ) .
قال عروة : سألت عائشة عن قول الله تعالى : (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى) . فقالت : يا ابن أختي ، هذه اليتيمة تكون في حجر وليها ، فيشركها في مالها ، ويعجبه مالها وجمالها ، فيريد أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها ، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره ، فنهوا عن نكاحهن إلا أن يقسطوا فيهن ، ويبلغوا أعلى سنتهن في الصداق . متفق عليه . ولأنه ولي في النكاح ، فملك التزويج كالأب .انتهى .
ثم استدل ابن قدامة على أن الأب وحده هو الذي من حقه أن يزوج الصغيرة دون من سواه فقال :-
ولنا ، قول النبي ﷺ : ( تستأمر اليتيمة في نفسها ، فإن سكتت فهو إذنها ، وإن أبت ، فلا جواز عليها ) . رواه أبو داود ، والنسائي . وروي ابن عمر ، ( أن قدامة بن مظعون زوج ابن عمر ابنة أخيه عثمان ، فرفع ذلك إلى النبي ﷺ فقال : إنها يتيمة ، ولا تنكح إلا بإذنها ). واليتيمة: الصغيرة التي مات أبوها . ولأن غير الأب قاصر الشفقة ، فلا يلي نكاح الصغيرة ، كالأجنبي ، وغير الجد لا يلي مالها ، فلا يستبد بنكاحها ، كالأجنبي . ولأن الجد يدلي بولاية غيره ، فأشبه سائر العصبات ، وفارق الأب ، فإنه يدلي بغير واسطة ، ويسقط الإخوة والجد ، ويحجب الأم عن ثلث المال إلى ثلث الباقي في زوج وأبوين أو زوجة وأبوين . والآية محمولة على البالغة بدليل قول الله تعالى : ( تؤتونهن ما كتب لهن ) . وإنما يدفع إلى الكبيرة ، أو نحملها على بنت تسع .انتهى .
وقال الجصاص الحنفي في تفسيره:-
قد اختلف الفقهاء في تزويج غير الأب والجد الصغيرين ، فقال أبو حنيفة ” لكل من كان من أهل الميراث من القرابات أن يزوج الأقرب فالأقرب ، فإن كان المزوج الأب أو الجد فلا خيار لهم بعد البلوغ ، وإن كان غيرهما فلهم الخيار بعد البلوغ .
وقال أبو يوسف ومحمد : ” لا يزوج الصغيرين إلا العصبات الأقرب فالأقرب ” ; قال أبو يوسف : ” ولا خيار لهما بعد البلوغ ” وقال محمد : ” لهما الخيار إذا زوجهما غير الأب والجد ” .
وذكر ابن وهب عن مالك في تزويج الرجل يتيمه إذا رأى له الفضل والصلاح والنظر : ” أن ذلك جائز له عليه ” . وقال ابن القاسم عن مالك في الرجل يزوج أخته وهي صغيرة : ” إنه لا يجوز ، ويزوج الوصي وإن كره الأولياء ، والوصي أولى من الولي ، غير أنه لا يزوج الثيب إلا برضاها، ولا ينبغي أن يقطع عنها الخيار الذي جعل لها في نفسها ، ويزوج الوصي بنيه الصغار وبناته الصغار ولا يزوج البنات الكبار إلا برضاهن ” . وقول الليث في ذلك كقول مالك ، وكذلك قال يحيى بن سعيد وربيعة إن الوصي أولى .
وقال الثوري: ” لا يزوج العم ولا الأخ الصغيرة ، والأموال إلى الأوصياء ، والنكاح إلى الأولياء ” . وقال الأوزاعي: ” لا يزوج الصغيرة إلا الأب ” . وقال الحسن بن صالح : ” لا يزوج الوصي إلا أن يكون وليا ” .
وقال الشافعي : ” لا يزوج الصغار من الرجال والنساء إلا الأب أو الجد إذا لم يكن أب ، ولا ولاية للوصي على الصغيرة ” . قال أبو بكر : روى جرير عن مغيرة عن إبراهيم قال : قال عمر : ” من كان في حجره تركة لها عوار فليضمها إليه فإن كانت رغبة فليزوجها غيره ” .انتهى .
وجاء في الموسوعة الطبية الفقهية للدكتور أحمد محمد كنعان (رئيس قسم الأمراض المعدية بإدارة الرعاية الصحية الأولية بالمنطقة الشرقية في السعودية:-
زواج الصغير : يجوز للصغير قبل البلوغ أن يتزوج ، سواء كان ذكراً أو أنثى ، ويباشر وليه العقد ويزوجه ، ولا يصح من الزوج الصغير طلاق زوجته سواء كان مميزاً أو غير مميز ، إلا عند الحنابلة فقد أجازوا منه الطلاق إن كان مميزاً يعقل معنى الطلاق .. وتحسب عدة الصغيرة التي لم تحض بثلاثة شهور عملاً بقوله تعالى : (واللائي يئسْنَ منَ المحيضِ من نسَائِكُمْ إِنْ ارتبتُم فعدَّتُهُنَّ ثلاثـةُ أشهرٍ واللائي لم يحضْنَ) سورة الطلاق
ولا يخفى بأن زواج الصغار لا يخلو من محاذير صحية ، لأن أجهزتهم التناسلية لا تكون مهيأة للجماع بعد ، كما أن الصغار لا يكونون مهيئين نفسياً لممارسة الجنس ، وبخاصة البنت الصغيرة التي يغلب أن تتضرر جسدياً ولاسيما إذا كان زوجها رجلاً كبيراً ! فقد يسبب جماعها مضاعفات نفسية وجسدية سيئة ترافقها طوال حياتها وتؤثر في مستقبلها الجنسي ! ولهذا ذهب الفقهاء إلى أن الزوجة الصغيرة التي لا تحتمل الوطء لا تُسلَّم إلى زوجها حتى تكبر وتصبح في سـن تتحمل فيه الوطء ، حتى وإن كان الزوج عاقلاً أميناً وتعهد ألا يقربها ، لأن هيجان الشهوة فيه قد يحمله على وطئها فيؤذيها ، ورأى الحنابلة أنها إذا بلغت تسـع سنين دفعـت إلى زوجهـا ، لما ثبت في الصحيح من أن النبي ﷺ ( بنى بعائشة وهي بنت تسع سنين)
ولكن إذا خافت البنت على نفسها فلها أن تمنعه من جماعها ، ويستمتع بها كما يستمتع بالحائض ، وذلك حتى تكبـر وتتهيأ للجماع ..
ونحن بدورنا ننصح من الوجهة الطبية بعدم الزواج قبل البلوغ على أقل تقدير لأن البلوغ مؤشر فطري يدل على أن الجسم أصبح مهيأً لممارسة الجنس ، كما أن الإنسان بالبلوغ يصل إلى درجة مقبولة من الوعي الاجتماعي الذي يساعده على تكوين الأسرة .. علماً بأن معظم القوانين المعمول بها في البلدان الإسلامية وغير الإسلامية تمنع الزواجَ قبل سِنِّ الرُّشْدِ ، أو سنِّ ثماني عشرة سنة . انتهى .
ويقول الدكتور مصطفى الزرقا – من كبار علماء سوريا – رحمه الله-:-
إن قانون الأحوال الشخصية يَعْتبر عقد الزواج الذي يقع قبل استكمال الزوجين الحدَّ الأدنى من السِّنِّ الأهْلية للزواج باطلاً غير مُنْعقد، ولا يجوز للمَحْكمة الشرعية تثبيتُه فيما إذا ادعى به وأُريد إثباته .
وإن الحدَّ الأدنى لأهلية الزواج من حيث السن بمُقتضى هذا القانون هو في الفتى: خمس عشرة سنة، وفي الفتاة: ثلاث عشرة سنة بشرط دعوى البلوغ وموافقة الحاكم وموافقة الأب أو الجَد إن كان للخطيبين أب أو جد .
فمن لم يَستكمل هذه السن من ذكر أو أنثى لا ينعقد زواجه بمقتضى القانون المذكور، وهو قانون شرعي مُستمَدٌّ كلُّ ما فيه من فقه المذاهب الاجتهادية، وبعض أحكامه موضوع على أساس قاعدة المصالح المرسلة التي يَمنح الشرع فيها لأولياء الأمور سُلطةً يُصدرون بها أوامر، تُعتبر في نظر الفقهاء واجبة الاحترام والتنفيذ متى كانت جارية على مُقتضى المقاييس الشرعية في المصلحة المرسلة، وبرأْي أهل العلم والاختصاص في الشريعة، أو كانت موافقة لأحد الاجتهادات المُعْتبرة. وهذا القانون كلُّه من هذا القَبيل، وقد وضعتْه لجنة شرعية من قُضاة الشَّرْع وعُلَمائه، فما جاء فيه من أحكام يُعتبر هو الحكم الواجب التنفيذ شرعًا .