الكلام عن تاريخ بناء المسجد الأقصى طويل، ولكن نلَخِّص ما كتبه عنه ابن خلدون في مقدمته، بادئًا بذكر حديث رواه مسلم عن النبي ـ ﷺ ـ فقد سأله أبو ذرٍ عن أول مسجد وُضِعَ في الأرض فقال: “المسجد الحرام” أي الذي في مكة ثمَّ سأله عن غيره فقال: “المسجد الأقصى” فسأله : كم بينهما؟ قال “أربعون عامًا.
وفي تفسير القرطبي أن المسجد الأقصى بناه سليمان ـ عليه السلام ـ كما أخرجه النسائي بإسناد صحيح من حديث عبد الله بن عمرو.
ثم قال القُرْطبي: هناك إشكالٌ بين الحديثين؛ لأن بين إبراهيم الذي رَفَعَ قواعد الكعبة وسليمان آمادًا طويلة، قال أهل التاريخ أكثر من ألف سَنة، فقيل: إن إبراهيم وسُليمان عليهما السلام إنما جدَّدا ما كان أسسه غيرهما، وقد رُوي أن أول من بني البيت ـ في مكة ـ آدم عليه السلام، فيجوز أن يكون غيره من ولده وضع بيت المقدس من بعده بأربعين عامًا، ويجوز أن تكون الملائكة أيضًا بنته بعد بنائها البيت بإذن الله. وكلٌّ مُحْتَمل. انتهى ما نَقَلَ من القرطبي.
وجاء في مقدمة ابن خلدون (ص 246) أن بيت المقدس قام داود وسليمان ـ عليهما السلام ـ ببنائه ونَصْبِ هياكله وَدَفْن كثير من الأنبياء من ولد إسحاق ـ عليه السلام ـ حواليه، ثم قال: لما خرج موسى ببني إسرائيل من مصر لتمليكهم بيت المقدس كما وعد الله أباهم إسرائيل وأباه إسحاق من قبله وأقاموا بأرض التيه أمره الله باتخاذ قُبة من خشب السَّنط، فنصبوها بين خيامهم يصلون إليها، ولما ملكوا الشام وبقيت تلك القُبة قِبْلَتهم وضعوها على الصَّخرة ببيت المَقدس ، وأراد داود ـ عليه السلام ـ بناء مسجده على الصخرة مكانها فلم يتم له ذلك وعهد به إلى ابنه سُليمان فبناه لأربع سنين من مُلْكِه ولخمسمائة سنة من وفاة موسى ـ عليه السلام ـ. ثم خرَّبه بُخْتنَصَر بعد ثمانمائة سنة من بنائه، ولما أعادهم ملوك الفرس بناه عُزَيْر نبي بني إسرائيل لعهده بحدود دون بناء سليمان. ثم تداولتهم ملوك يونان والفرس والروم، وبني هيرودوس المسجد على بناء سليمان، فلما جاء طيطوس من ملوك الروم وغلبهم خرَّب المسجد، ثم دان الروم بعد ذلك بالمسيحية حتى جاء قُسْطَنْطِين وتنصرت أمه هيلانه وارتحلت إلى بيت المقدس تطلب الخَشَبة التي صُلِبَ عليها المسيح بزعمهم، فاستخرجتها من القِمامات وبنت مكانها كنيسة القمامة، ثم بنوا بإزاء القِمامة بيْت لَحْم وهو الذي وُلِدَ فيه عيسى.
وبقي الأمر على ذلك إلى أن جاء الإسلام وحَضَرَ عُمر لفتح بيت المقدس وسأل عن الصخرة فرأى عليها زِبْلاً وتُرابًا فكشف عنها وبُنى المسجد بطريقة مُبَسَّطة.
ثم احتفل الوليد بن عبد الملك في تشييد مسجده على سنن مساجد الإسلام بما شاء الله من الاحتفال كما فعل بالمسجد الحرام والمسجد النبوي ومسجد دمشق.
ولما ضعف أمرُ الخلافة أعوام الخمسمائة من الهجرة في آخرها وكانت في ملك العبيديين خُلفاء القاهرة من الشِّيعة واختلَّ أمرهم ـ زحف الفِرنجة إلى بيت المقدس فملكوه وملكوا معه عامة ثُغور الشام، وبنوا على الصخرة المقدسة كنيسة كانوا يفتخرون ببنائها حتى قيَّض الله للإسلام صلاح الدين الأيوبي فجاهد الفِرنجة وطردهم من تلك المنطقة حوالي سنة 580 من الهجرة، وهدم الكنيسة وأظهر الصخرة وبنى المسجد على النحو الذي هو عليه اليوم (أيام ابن خلدون) وقد انتهى من وضع مقدمته في منتصف عام 799 كما دوَّنه في آخر المقدمة.
هذه صورة تاريخية موجزة للمسجد الأقصى حتى القرن الثامن الهجري، وما بعد ذلك يطلب من كُتب التاريخ، وقد رأينا كيف تَقَلَّب به التاريخ حتى نكب بالاحتلال الصهيوني في القرن الحاضر، ولا يعلم إلا الله ماذا سيكون أمره بعد ذلك.