اتفق العلماء على فرضية الخمار وهو كل ما يستر جسد المرأة عدا الوجه والكفين، ولا يصف ولا يشف عما تحته، ولا يكون فيه تشبها بالرجال، واختلفوا حول النقاب وهو ما يستر كل المرأة سوى عينها أو عينيها، فقال بعضهم هو واجب أو فرض، وقال بعضهم هو مباح أو مندوب في بعض الحالات، ولكن لم يقل أحد من أهل العلم الراسخين أنه بدعة أو محرم.
والأولى ترك الناس وما يريدون، فمن اكتفت بالخمار فلا إثم عليها، ومن أرادت النقاب فلا اعتراض عليها ، فالنقاب موجود بصرف النظر عن كونه فرضا أو مباحا .
يقول فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي:-
الواقع أن وصف النقاب بأنه بدعة دخيلة، وأنه ليس من الدين ولا من الإسلام في شيء، وأنه إنما دخل على المسلمين في عصور الانحطاط الشديد ـ الواقع أن هذا الوصف غير علمي، وغير موضوعي، وهو تبسيط مُخِلٌّ بجوهر القضية، ومُضَلِّلٌ عن تَبَيُّنِ الموضوع على حقيقته،
فمما لا يُمارِي فيه أحد يَعْرِفُ مصادر العلم وأقوال العلماء: أن القضية خلافية، أعني قضية جواز كشف الوجه أو وجوب تغطيته ـ ومعه الكفان أيضًا.
وقد اختلف فيها العلماء ـ من فقهاء ومفسرين ومُحدِّثين ـ قديمًا، ولا يزالون مختلفين إلى اليوم.
وسبب الاختلاف يرجع إلى موقفهم من النصوص الواردة في الموضوع ومدى فهمهم لها، حيث لم يَرِدْ فيه نَصٌّ قطعيٌّ الثبوت والدِلالة، ولو وُجِدَ لحُسِمَ الأمر.
فهم مختلفون في تفسير قوله ـ تعالى ـ: (ولا يُبدِينَ زِينتهُنَّ إلا ما ظَهَرَ منها) (النور: 31).
فرَوَوا عن ابن مسعود أنه قال: (إلا ما ظهر منها): الثياب والجلباب، أي الثياب الخارجية التي لا يُمكِن إخفاؤها.
ورووا عن ابن عباس أنه فَسَّر: (ما ظهر منها) بالكُحل والخاتَم.
ورُوي مثلُه عن أنس بن مالك.
وقريب منه عن عائشة.
وأحيانًا يُضيف ابن عباس إلى الكُحل والخاتم: خِضابُ الكَفِّ، أو المُسْكَة ـ أي السِّوار ـ أو القُرط والقِلادة.
وقد يُعبر عن الزينة بموضعها، فيقول ابن عباس: رُقعة الوجه وباطن الكف، وجاء ذلك عن سعيد بن جبير وعَطاء وغيرهما.
وبعضهم جعل بعض الذراع مما ظهر منها.
وفَسَّر ابن عطية ما ظهر منها: أنه ما انكَشفَ لضرورة، كأن كَشَفَتْه الريح أو نحو ذلك (انظر: تفسير الآية عند ابن جرير وابن كثير والقرطبي، والدر المنثور: 5/41، 42، وغيرها.).
وهم مختلفون في تفسير قوله ـ تعالى ـ: (يا أيها النبي قُل لأزواجِك وبناتِك ونِساءِ المؤمنينَ يُدْنينَ عليهنَّ مِن جَلابيبهنَّ، ذلك أَدْنَى أن يُعرفْنَ فلا يُؤذَينَ، وكان اللهُ غفورًا رحيمًا) (الأحزاب: 59).
ما المراد بإدناء الجلابيب في الآية الكريمة؟
فرووا عن ابن عباس نقيضَ ما رُوي عنه في تفسير الآية الأولى!!
ورووا عن بعض التابعين ـ عبيدة السلماني ـ أنه فسر الإدناء تفسيرًا عمليًّا بان غَطَّى وجهَه ورأسه، وأبرز عينه اليسرى!! ومثله عن محمد بن كعب القرظي.
وخالفهما عِكرمة مولى ابن عباس: فقال: تُغطِّي ثغرة نحرها بجلبابها، تُدنيه عليها.
وقال سعيد بن جبير: لا يَحِلُّ لمسلمة أن يراها غريب إلا أن يكون عليها القناع فوق الخمار وقد شَدَّتْ به رأسها ونَحْرَها (انظر:الدر المنثور: 5/221، 222، والمصادر السابقة في تفسير الآية.).
وأنا ممن يُرجِّحون أن الوجه والكفين ليسا بعورة، ولا يَجب على المسلمة تغطيتُهما، وأرى أن أدلة هذا الرأي أقوى من الرأي الآخر.
ومعي في هذا الرأي كثير من علماء هذا العصر، مثل الشيخ ناصر الدين الألباني في كتابه (حجاب المرأة المسلمة في الكتاب والسنة)، وجمهور علماء الأزهر في مصر، وعلماء الزيتونة في تونس، والقرويين في المغرب، وغير قليل من علماء باكستان والهند وتركيا وغيرها.
ولكن ادِّعاء إجماع علماء العصر على هذا ليس صحيحًا، فمن العلماء في مصر من يعارض هذا القول.
وعلماء السعودية وعدد من بلاد الخليج يُعارضون هذا الرأي، وعلى رأسهم العالم الكبير الشيخ عبد العزيز بن باز.
وكذلك كثير من علماء باكستان والهند، يخالفونه، ويرون أن على المرأة أن تُغطي وجهها.
ومن أشهر الذين قالوا بذلك من كبار علماء باكستان ودُعاتِها: المجدد الإسلامي المعروف الأستاذ أبو الأعلى المودودي في كتابه الشهير: (الحجاب).
ومن المعاصرين الأحياء المنادين بوجوب تغطية الوجه الكاتب الإسلامي السوري المعروف الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، الذي أصدر في ذلك رسالة (إلى كل فتاة تؤمن بالله).
وهناك رسائل وفتاوى تظهر بين الحين والحين، تُنَدِّد بكشف الوجه، وتُنادِي الفتيات باسم الدين والإيمان، أن يَلتزِمنَ النقابَ، ولا يَخضَعنَ للعلماء (العصريين) الذين يُريدون أن يُطَوِّعُوا الدين للعصر، ولعلهم يَجعلونَني منهم!!.
فإذا وُجد من بنات المسلمين من تَقتنِعُ بهذا الرأي، وترى أن كشف الوجه حرام، وأن تغطيته فريضة، فكيف نَفرِضُ عليها الرأي الآخر، الذي تراه هي خطأً، ومخالفًا للنص؟
إنما نُنكِر عليها حقًّا إذا رأتْ أن تَفرِضَ هي رأيها على الآخرين أو الأخريات، وأن تَحكُمَ بالإثم أو الفِسْقِِ على كل من عمل بالرأي الآخر، وتَعتبِر هذا منكرًا يَجب محاربتُه، مع اتفاق المُحقِّقين من العلماء على أن لا إنكار في المسائل الاجتهادية الخلافية.
ولو أنكرنا عليها نحن العمل بالرأي الذي يُخالف رأينا ـ وهو رأي مُعتبَر داخل نطاق الفقه الإسلامي الرحب ـ لوقعنا نحن في المحظور، الذي نُقاوِمه وندعو إلى التحرر منه، وهو إلغاء الرأي الآخر، وعدمُ إعطائه حَقَّ الحياة، لمُجرد أنه يُخالفنا أو نُخالفه.
بل لو فُرض أن هذه المسلمة لا تَرى وجوب التغطية للوجه، وإنما تراه أورع وأتقى، خروجًا من الخلاف، وعملاً بالأحوط فقط، فمن ذا الذي يَمنعها من أن تأخذ بالأحوط فقط، فمن ذا الذي يمنعها من أن تأخذ بالأحوط لنفسها ودينها؟ وكيف يُسَوَّغ أن تُلامَ على ذلك ما دام هذا لا يؤذي أحدًا، ولا يَضُرُّ بمصلحة عامة ولا خاصة؟
فلم يقل أحد من علماء المسلمين في القديم أو الحديث بتحريم لبس النقاب على المرأة بصفة عامة، إلا ما جاء في حالة الإحرام فحسْب.
إنما اختلفوا فيه بين القول بالوجوب، والقول بالاستحباب، والقول بالجواز.
أما التحريم، فلا يُتصوَّرُ أن يقول به فقيه، بل ولا الكراهية، وقد عَجِبتُ كُلَّ العجب مما نشره أحد الكتاب من كلمات لبعض الأزهريين الذين قالوا: إن القول بتغطية الوجه تحريم لما أَحَلَّ الله، وهو قولُ مَن ليس له في الكتاب والسنة أو الفقه وأصوله قَدَمٌ راسخة!
ولو كان الأمر مجرد مباح ـ كما هو الرأي الذي أختاره ولم يكن واجبًا ولا مُستَحَبًّا ـ لكان من حق المسلمة أن تُمارِسه، ولم يَجُزْ لأحد أن يَمنعها منه؛ لأنه خالصُ حقها الشخصي، وليس في ممارسته إخلال بواجب، ولا إضرار بأحد.
والدساتير الوضعية نفسها تُقرِّر هذه الحقوق الشخصية، وتحميها، كما تحميها مواثيق حقوق الإنسان.
وكيف نُنكِر على المسلمة المتديِّنَة أن تَلبَس النقاب، مع أن من زميلاتها من طالبات الجامعة، من تلبس الثياب القصيرة ـ والمبالغة في القصر ـ والشَّفَّافَةَ والمُجسِّمَة للمَفاتِن، وتضع من (ألوان المكياج) ما تَضع، ولا يُنكِر عليهن أحد، باعتبار أن هذا من الحرية الشخصية! مع أن هذا اللباس الذي يَشِفُّ أو يَصِفُ، أو لا يُغطِّي ما عدا الوجه واليدين والقدمين من الجسم، مُحَرَّم شرعًا بإجماع المسلمين؟!
فيا عجبًا كيف تُترَك الحريةُ للكاسيات العاريات، المميلات المائلات، ولا يَتعرَّض لهن أحد ببنتِ شَفَةٍ، كما يقولون، ثم يُصَبُّ جَامُّ السُّخْطِ كله، واللوم كله، على ربَّاتِ النقاب، اللائي يَعتقدن أن ذلك من الدين الذي لا يَجوز التفريط أو التساهل فيه؟
ويقول الدكتور عبد الفتاح عاشور، الأستاذ بجامعة الأزهر:
بالنظر في مسيرة التشريع الإسلامي وما نزل من القرآن الكريم وما جاء في السنة المطهرة في هذا الموضوع يتبين الآتي:
1- كان السفور من شأن الجاهلية واستمر هذا إلى أن نزلت آية الأحزاب في العام الخامس الهجري وفيها قول الله تعالى: “يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن، ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما “، وإدناء الجلابيب معناه أن تغطي المرأة وجهها وصدرها ولا تترك إلا مكان النظر بعينيها، قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عينا واحدة، وبعد غزوة ” بني المصطلق ” وفي العام السادس نزلت آية النور وفيها قول الله تعالى: “وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها”، يقول ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: ما ظهر منها الوجه والكفان والخاتم.
2- وما كان لحبر الأمة أن يتناقض مع نفسه، فقال هذا أولا في الآية الأولى فهذا هو ما نطقت به كلماتها، وقال ما قال في الآية الثانية فهذا تدرج في التشريع، ويبقى الأول وهو النقاب لمن رغبت وسمحت لها ظروفها بذلك ، وهو شيء طيب تحمد عليه، ويكون الثاني وهو ستر الجسد كله عدا الوجه والكفين هو الذي استقر عليه التشريع الإسلامي وهو الواجب على كل مسلمة.
3- ليس من خُلق الإسلام أن يعيب أحد الفريقين على الآخر، فمن أخذت بالعزيمة وارتدت النقاب فهذا أمر تستحق عليه الثناء ولها الأجر، ومن أخذت الرخصة فكشفت عن وجهها وكفيها فلا حرج عليها،ولكن إذا أبدت المرأة عن وجهها وكفيها فالواجب ألا تتزين بزينة تلفت إليها الأنظار، بما جرت عليه عادة بعض النساء المحجبات من استعمال المساحيق والأصباغ فهذا لم يرد في دين الله، فاختاري لنفسك أيها المسلمة ما تحبين ولا تثريب عليك في اختيار الخمار أو النقاب والله يوفقك وإيانا لما يحبه ويرضاه .