النبي ﷺ، بشر معصوم من الخطأ، جعله الله لنا أسوة حسنة وجعل في اتباعه الهداية والرشاد، فما ورد عن سيرة النبي ﷺ، ونعني الصحيح منها، هو نبراس للأمة، لبيان أعلى ما يمكن أن تتبعه إذا كانت الظروف هي ذات الظروف التي أحاطت بالنبي ﷺ .
أما إذا اختلفت الظروف فلا حرج في أن يبحث علماء المسلمين وأئمة هذه الأمة عمَّا هو مناسب لهم، شريطة ألا يخالف نصًًّا شرعيًًّا من كتاب أو سنة، أو ممن أجمعت عليه الأمة، وبالتالي فإننا نخلص إلى أن السيرة النبوية جزء من السنة التي هي دليل شرعي، على الأمة أن تسترشد بها في حياتها.
والنبي ﷺ باعتباره رجل دولة، وباعتباره قاضٍٍ، ما نطق به من حكم هو ملزمٌ لنا، وما اتخذه من إجراءات من الممكن أن نرى غيرها حسب تطور الظروف، ومثال ذلك أنه في عهده ﷺ لم يكن يعرف البصمات بالتعرف على الجاني، وعلى الرغم من هذا فنحن نستخدمها للتعرف على الجاني .
والإمام علي رضي الله عنه قال: “أنا أول من فرَّق بين الشهود”، وهذا الأمر لم يتم في عهده، أعني التفريق بين الشهود، وهو كرجل دولة ﷺ، كان يستخدم الشورى مع أصحابه، بكيفيات مختلفة، مثل سؤاله الأنصار مع المهاجرة يوم بدر، ومثل سؤاله للمسلمين يوم أُحد، ومع ذلك فللمسلمين أن يحددوا طرقًًا للشورى غير ذلك، ولكن على أن يتم من خلالها تحقيق الأهداف التي شرعت من أجلها الشورى بين المسلمين، وعدم الخروج على النصوص المقطوع بها والأحكام المجمع عليها، وفي بعض كتب السياسة الشرعية في الإسلام تفصيل لذلك يمكن الرجوع إليها.
ويبسط الدكتور القرضاوى القول فى هذه المسألة إلى حد ما فيقول:
من أسباب الخطأ والاضطراب في الفقه السياسي: الخلط بين السنة والسيرة في الاحتجاج.
السنة مصدر للتشريع والتوجيه في الإسلام بجوار القرآن الكريم.
فالقرآن هو الأصل والأساس والسنة هي البيان والتفسير والتطبيق.
ولكن الخطأ الذي يقع فيه البعض هنا أنه يضع السيرة موضع السنة ويستدل بأحداث السيرة النبوية على الإلزام كما يستدل بالسنة والقرآن.
والسيرة ليست مرادفة للسنة فمن السيرة لا يدخل ما في التشريع ولا صلة له به ولهذا لم يدخل الأصوليون السيرة في تعريف السنة بل قالوا: السنة ما صدر عن النبي من قول أو فعل أو تقرير ولم يجعلوا منها السيرة.
أما المحدثون فهم الذين أضافوا إلى القول والفعل والتقرير الوصف الخَلْقي والخُلقي والسيرة لأنهم يجمعون كل ما يتعلق به مما له علاقة بالتشريع وما لا علاقة له به فيرون من حياته ما قبل البعثة من المولد والرضاع والنشأة والشباب والزواج . . الخ ويروون أوصافه الخِلْقية والخُلُقية ويروون كل ما يتصل بحياته ووفاته.
المهم أن بعض الفصائل الإسلامية تتخذ من السيرة دليلاً مطلقًا على الأحكام وتعتبرها ملزمة لكل المسلمين .
وهنا ملاحظتان مهمتان:.
الأولى: أن في السيرة كثيرًا من الوقائع والأحداث مروية بغير السند المتصل الصحيح؛ فقد كانوا يتساهلون في رواية السيرة ما لا يتساهلون في رواية الأحاديث المتعلقة بالأحكام وأمور الحلال والحرام .
والثانية: أن السيرة تمثل الجانب العملي من حياة النبي أي تمثل قسم الفعل من السنة غالبًا .
والفعل لا يدل على الوجوب والإلزام وحده إنما يدل على الجواز فقط أما الوجوب فلا بد له من دليل آخر.
صحيح أننا مطالبون بالاقتداء بسنة النبي ـ ﷺ ـ :.
(لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا). (الأحزاب: 21). ولكن الآية تدل على استحباب التأسي والاقتداء به لا على وجوبه.
على أن اتخاذ الأسوة من سيرته إنما يكون في الأخلاق والقيم والمواقف العامة لا في المواقف التفصيلية.
فليس من الضروري أن نقتدي به بالبدء بالدعوة سرًا إذا كان الجهر ميسورًا ومأذونا به .
وليس من الضروري أن نهاجر كما هاجر إذا لم يكن لدينا ضرورة للهجرة بأن كنا آمنين في أوطاننا متمكنين من تبليغ دعوتنا.
ولهذا لم تعد الهجرة إلى المدينة فرضًا على كل مسلم بعد فتح مكة كما كانت من قبل ولهذا قال الرسول ـ ﷺ ـ :. (لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا) (متفق عليه وهو مروي عن عدد من الصحابة ) أي لا هجرة إلى المدينة وإن بقيت الهجرة من كل أرض لا يتمكن المسلم من إقامة دينه فيها.
وليس من الضروري أن نطلب النصرة من أصحاب السلطة والقوة كما طلبها الرسول الكريم من بعض القبائل فاستجاب له الأوس والخزرج إذ لم يعد ذلك أسلوبًا مجديًا في عصرنا.
وليس من الضروري أن نظل ثلاثة عشر عامًا نغرس العقيدة وندعو إليها لأننا اليوم نعيش بين مسلمين يؤمنون بأن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله فليسوا محتاجين إلى أن تعلمهم العقيدة مثل هذه المدة.
وإذا أهتممنا اليوم بالعدالة الاجتماعية أو الشورى والحرية أو بالقدس والمسجد الأقصى أو بالجهاد ضد أعداء الأمة فليس ذلك مخالفة للهدي النبوي الذي لم يهتم بهذه الأمور إلا في المدينة لأن الرسول كان في مكة في مجتمع جاهلي مشرك بالله مكذب برسالة محمد فكانت المعركة الأولى معه حول التوحيد والرسالة.