ستر المذنبين على أنفسهم والتوبة إلى الله
والتوبة ليست مجرد استغفار باللسان، ولكنها عمل مكون من شروط، وهذه الشروط هي العزم والندم الصادقان من المؤمن المذنب على ترك المعصية، وعدم العود إليها، ذلا لله وخوفا من عقابه، فمن وجد منه ذلك كانت توبته حينئذ صحيحة، ونرجو أن تكون منجية له من العذاب إن شاء الله، فالتوبة النصوح إذا صدرت من المذنب فى وقتها مستوفية شروطها تلحق التائب بمن لم يرتكب المعصية أصلا.
والتوبة بهذا المفهوم هي التي ترفع غضب الله عز وجل. هذا عن المذنب نفسه.
الستر على المذنبين أم الإبلاغ عنهم لمن رأهم
أقوال العلماء في الستر على المذنبين أم الإبلاغ عنهم
نص فقهاء المذاهب على أنه يجوز في الحدود الشهادة والستر، لكن الستر أفضل فيما كان حقا لله عز وجل، واستدلوا بقول النبي ﷺ : “من ستر مسلما ستره الله يوم القيامة” وبقوله عليه الصلاة والسلام : “لو سترته بثوبك كان خيرا لك. واستثنوا من ذلك المتهتك الذي لا يبالي بإتيان المحظورات ولا يتألم لذكره بالمعاصي.
وقال الفقهاء : يقول الشاهد على السرقة : أخذ لا سرق إحياء للحق ورعاية للستر. وإذا طعن في الشهود يجوز أن يسأل عنهم القاضي جهرا أو سرا على المفتى به عند الحنفية.
وقال المالكية : إن الشاهد مخير في الرفع إلى القاضي أو الترك إلا في الحدود فالترك فيها أولى لما فيه من الستر المطلوب في غير المتجاهر بفسقه وأما المجاهر فيرفع أمره. وكون الترك مندوبا هو قول لبعض المالكية وفي المواق : ستر الإنسان على نفسه وعلى غيره واجب وحينئذ يكون ترك الرفع واجبا.
و يقول الدكتور يوسف القرضاوي :
يجب على من ارتكب جريمة الزنا أن يتوب إلى الله عنها، ويندم ويستغفر الله عز وجل، ويعزم عزما صادقًا على ألا يعود لمثل هذا الذنب أبدًا، كما لا يعود اللبن إلى الضرع.
بعض العلماء شددوا وقالوا : لا بد أن يذهب إلى أهل المزني بها ويستسمحهم لأن هذا أمر يتعلق بحقوق العباد، فلا بد أن يسامح العباد في حقهم، ومعنى هذا أن يذهب الرجل إلى من يريد أن يستسمحه فيقول له : لقد زنيت بامرأتك أو بابنتك فاصفح عني وسامحني.. طبعًا، هذا شيء لا يعقل حدوثه، لأن ذلك الرجل سوف يقتله أو يفعل به الأفاعيل.
ولهذا حقق المحققون أن التوبة من الزنا تكون بين المرء وخالقه تعالى. فإذا تاب وأناب وندم واستغفر، فالمرجو أن يعفر الله له ويعفو عنه. انتهى.
نصيحة للمذنبين في الستر والتوبة
ننصح من يتورطون في جريمة عقوبتها الحد أو غيره، وبخاصة ما ليس فيها حق للعباد أن يستروا أنفسهم فلا يبيحوا بها، ولا يطلب أحد أن يُقام عليه الحد لتكفير خَطئه، فالتوبة النصوح أحسن وسيلة. وأوقع في عدم الوصمة للفرد والمجتمع بالانحراف. يقول النبي -ﷺ- : “من أصاب شيئًا من هذه القاذورات فليستتر بستر الله، فإن من أبدى لنا صفحته أقمنا عليه الحد” رواه مالك في الموطأ. ويقول في مبايعته لأصحابه على عدم الشرك والزنا والسرقة والقتل : “ومن أصاب شيئًا من ذلك فَسَتَرَه الله عليه فَأَمره إلى الله، إن شاء عفا عنه وإن شاء عذَّبه”. (رواه البخاري ومسلم).
ويقول فضيلته أيضا :
رَوى البخاري ومسلم أن النبي -ﷺ- قال : “كلُّ أمتي مُعَافىً إلا المجاهرين، وإنَّ من المجاهرة أن يَعمل الرجل عملًا بالليل فيَسْتُره ربُّه، ثم يُصْبِح فيَكْشِف سِتْرَ الله عنه”،
وروى الحاكم وصححه أن النبي -ﷺ- قال : “الحياء والإيمان قُرَناء جميعًا، فإذا رُفِع أحدهما رُفِع الآخر” ولما رجم النبي -ﷺ- ماعزًا الأسلَمي قال : “اجْتَنِبوا هذه القاذورات التي نهى الله عنها، فمَن ألمَّ بشيء منها فليَسْتَتِر بِسِتْر اللهِ، فإن أبْدَى لَنَا صَفْحَتَه نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللهِ” صحَّحه الحاكم وابن السَّكن، وقال الذهبي في المُهذب : إسناده جيد وقال إمام الحرمين : صحيح متفق عليه، قال ابن الصلاح : عجيب أوقعه فيه عدم إلمامه بصناعة الحديث “الزرقاني على المواهب ج4 ص 261”.
ورَوى أبو داود والنسائي أن هُزالًا لمَّا ذهب إلى النبي -ﷺ- يُخْبُره عن زنا ماعز، فحَضَر ماعز وأقرَّ ورُجِمْ، قال النبي لهُزال : “لو ستَرْتَه بِثَوْبِكَ كَانَ خَيْرًا لَكَ”، وَرَوى مسلم وغيره أن رجلًا قال للنبي -ﷺ- : إني عالجت امرأة من أقصى المدينة وأصبْت منها ما دون أن أمَسَّها، فأنا هذا، فأقِمْ عليَّ ما شئتَ، فقال عُمر: لَقَدْ سَتَرَ الله عليك لو سترْتَ على نفسك، فلم يردَّ النبي -ﷺ- شيئًا. (نيل الأوطار ج7 ص 106).
يُؤْخَذ من هذا أن سِتْر الإنسان على نفسه وسترَ الغير عليه مطلوب، ولو استغفر العاصي ربَّه وتاب إليه عافاه الله، والمجاهرون بالمعصية قوم غاضَ ماءُ الحياء من نفوسهم، وتبَلَّد حِسُّهم، وماتت ضمائرهم، فقلَّما يُفكرون في العَودة إلى الصواب وبهذا يموتون على عصيانهم وفسوقهم. فالمطلوب ممن يرتكبون المعصية أيًّا كانت أن يستتروا بها ولا يُفْشوها، وأن ينْدَموا ويتوبوا، وألا يُفْشوها للناس فقد يُقام عليهم الحدُّ أو التعزير، ثمَّ ينْدمون ولاتَ ساعةَ مَنْدَم، وفي الإفْشاء إغراء للبُسَطَاء بالعِصْيان، ووضْع لأنفسهم موضع التُّهمة والاحتقار، ورحم الله امرأ ذبَّ الغيبة عن نفسه، والله يقول : (إنَّ الذِينَ يُحِبُّونَ أنْ تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَة ) [سورة النور:19]. انتهى.