إن زعم بعض من يبيح الربا أن الربا المحرم إنما هو ما كان للاستهلاك ، أي الذي كان يستدينه الإنسان ليأكل ويشرب ، أما الربا الذي يستخدم في الإنتاج فليس بحرام ،فإن هذا الكلام يخالف واقع العرب الذين كانوا تجارا ،وكانوا من الأغنياء ، وقد عرف عن العباس عم النبي الربا قبل تحريمه ، وهو الذي كان يطعم الناس ويسقيهم ، فكيف يدين لمن أتاه جائعا؟!
كما أن الله لعن على لسان الرسول صلى الله عليه آكل الربا ، وهو سبحانه الذي أباح أكل الميتة للحاجة ،فكيف يلعن من يستدين بالربا من أجل الطعام والشراب ،والمحقق أن الربا الذي كان منتشرا ،إنما هو ربا الإنتاج والمتاجرة .
ربا الإستهلاك وما هو الربا الذي كان في الجاهلية:
يقول الدكتور يوسف القرضاوي :
لقد قال من يرى إباحة الربا : إن الربا الذي حرمه الله ورسوله هو ما يعرف بـ(ربا الاستهلاك) وهو خاص بالإنسان الذي يستدين لحاجته الشخصية ؛ ليأكل ويشرب ويلبس، هو ومن يعول، وذلك لما في هذا الربا من استغلال حاجة المحتاج، وفقر الفقير، الذي دفعه العوز إلى الاقتراض، فرفض المرابي الجشع أن يقرضه إلا بالربا بأن يرد له المائة مائة وعشرة مثلاً.
وهذا الكلام لم يقله فقيه مسلم قط طوال القرون الثلاثة عشر الماضية، قبل أن نبتلى بالاستعمار، وهو تقييد للنصوص المطلقة بمحض الظن والهوى، وقد ذم الله من فعل ذلك بقوله: (إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس، ولقد جاءهم من ربهم الهدى) سورة النجم الآية 23.
والتاريخ الصحيح يكذب هذا التأويل: فإن الربا الذي كان سائدًا في الجاهلية لم يكن ربا استهلاك، فلم يكن الشخص يستدين ليأكل، وما عرف عن العربي الغني أن يأخذ الربا ممن جاءه يطلب قرضًا لطعامه وشرابه، وإن حدث ذلك كان شيئًا نادرًا لا تقام الأحكام على مثله.
إنما الشائع في ذلك الزمن هو ربا المتاجرة، الذي كان يتمثل في القوافل التجارية الشهيرة في رحلتي الشتاء والصيف، يعطيهم الناس أموالهم ليستثمروها لهم: إما إقراضًا ومضاربة يتقاسمان فيها الربح على ما اشترطا، وإن حدثت خسارة فعلى رب المال . وإما قرضًا محدد الفائدة مقدمًا، وهو الربا . ومن هذا النوع الأخير كان ربا العباس بن عبد المطلب عم رسول الله – ﷺ -، الذي أعلن في حجة الوداع أنه موضوع ملغي، حيث قال :(إن ربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربا عمي العباس).
وما يتصور دارس منصف أن ابن عبد المطلب، الذي كان يُسقي الحجيج في الجاهلية متبرعًا من حر ماله، يعمل عمل اليهود الجشعين، فيقول لمن جاءه يسأله قرضًا لطعامه وطعام عياله: لا أعطيك إلا بالربا.
ولو كان الربا الذي حرمه الله ورسوله هو ربا الاستهلاك أي ربا المقترض لحاجاته الشخصية والعائلية، كما يدعي مُدَّعو اليوم، ما كان هناك وجه لأن يلعن رسول الله مؤكل الربا أي الذي يعطي الفائدة كما يلعن آكل الربا أي الذي يأخذ الفائدة، إذ كيف يلعن من يقترض ليأكل ؟ وقد أباح الله ورسوله – ﷺ – أكل الميتة والدم ولحم الخنزير لضرورات المخمصة والجوع كما قال تعالى: (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم).
ولكن الإمام مسلمًا روى في صحيحه عن جابر رضي الله عنه قال: لعن رسول الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال :(هم سواء) . وعن ابن مسعود: لعن آكل الربا ومؤكله . وهو مروي عن غيرهما من الصحابة.