حب الثناء طبيعة في النفس البشرية ، وقد أثنى الرسول – ﷺ – على بعض أصحابه ، بما فيهم من صفات اتصفوا بها ، وأثنى القرآن الكريم على الأنبياء والمرسلين ، ولكن يجب ألاّ يسعى الفرد للثناء ، ولا يفرح إذا أُثني عليه بشيء لم يفعله ، ولا يؤدي الثناء لمفسدته .
يقول فضيلة الشيخ الدكتور أحمد الشرباصي الأستاذ بجامعة الأزهر رحمه الله :
صحيح كنت أتحدث في مناسبة دينية عن خِبرة الرسول الأعظم محمد ـ ﷺ ـ بالنفس البشرية، وذكرتُ أثناء الحديث أن رسول الله ـ صلوات الله وسلامه ـ عليه قد أدرك بفطرته الإنسانية السامية، وعِصمته الإلهية العالية، وهداية العليم الخبير له، أن الثناء طبيعة الإنسان، وأن الناس على اختلاف مَشَارِبِهِم وَمَنَازِعِهِم يحبون أن يكون ذكرهم محمودًا، وأن تكون سيرتهم مذكورة بالخير والثناء.
والفرق بين الرجل الأصيل والرجل الهزيل في هذا المقام، أن الرجل الأصيل يُحب الثناء ويرتضيه بحق، وعن جهد بَذَلَه، وعمل عمله، ومَحْمَدَة أتاها؛ وأما الرجل الهزيل فإنه يُحب الثناء، ولو أتاه عن طريق الباطل، ومن هنا نعى القرآن ذلك فقال: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنِ الْعَذَابِ ولَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ) (آل عمران:188).
وذكرت أن الرسول ـ ﷺ ـ قد أثنى على خيار صحابته أفضل ثناء، حينما أطلق عليهم تلك الألقاب المجيدة التي صَادفت أهلها ولقيت محلها، فأبو بكر هو الصديق، وعمر هو الفاروق، وعثمان ذو النورين، وعليٌّ باب مدينة العلم، وخالد سيف الله المسلول، وأبو عبيدة أمين هذه الأمة، وحنظلة غسيل الملائكة، إلى آخره..
وفي القرآن الكريم آيات كثيرة، فيها ذِكر للأنبياء وثَنَاء عليهم، وتصريح بأن ذكرهم ـ الحميد ـ إنما كان لمَا اتَّصفوا به من محامد، وما قاموا به من مآثر:
-ففي سورة مريم يقول الله ـ تبارك وتعالى ـ عن إبراهيم: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا) (مريم:41).
-ويقول الله تعالى عن موسى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا) ( مريم:51 ).
-ويقول الله تعالى عن إسماعيل: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا) (مريم:54)
-ويقول الله تعالى عن إدريس: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا) (مريم:56).
-وفي سورة ص يقول الله تعالى عن داود (اصْبِر عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاودَ ذَا الْأَيْدِ) (الأيد ـ بفتح السكون ـ : القوة في الدين) (ص:17).
-ويقول الله تعالى عن أيوب: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصبٍ وَعَذَابٍ) (ص:41).
ويقول الله تعالى عن إبراهيم وإسحاق ويعقوب: (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإْسِحَاقَ وَيَعْقَوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ) (ص:45)
ويقول الله تعالى عن إسماعيل واليسع وذا الكفل: (وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ) (ص:48).
وفي سورة الأحقاف يقول الله تعالى عن هود: (وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ) (الآية:21)…إلخ.
والثناء بحق وصدق على العاملين والمجاهدين فيه تقدير وإنصاف أولًا.
وفيه إرضاء لنفس العامل المُجاهد، وحثٌّ له على مواصلة المجهود ثانيًا.
وفيه حرب للقدوة وتحريض على التنافس ثالثًا.
ومن عجيب المُصادفات أنني كنت أقرأ عقب هذا الحديث في مجموعة الكلمات التي كتبها الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، ونشرها السيد محمد رشيد رضا في “تاريخ الإمام” فإذا بي أجد مقالة بعنوان: “المقالة الثالثة عشرة: كم حكمة لله في حب المحمدة الحقة” كتبها الإمام ونَشَرَهَا في العدد الثاني عشر من جريدة العروة الوثقى في 0 1 رمضان سنة 1301 هـ – 3 يونيه سنة 1884م.
وفي هذه المقالة يتحدث الإمام محمد عبده عن كفاح الأمم والشعوب، وجهاد الأبطال فيها، وتحملهم للمتاعب، وصبرهم على المشقات، ويقول: “هكذا تنكشف لطالب المعالي مُوحشات مدهشات مصاولة المخاطر أدناها، والموت الشريف أقصاها وأعلاها، فتارة يخور عَزْمُه، ويضعف همه، فينكص على عقبيه، ويرتد إلى أسوأ حَالَيْهِ، ويرتع في مراتع أمثاله، حتى يروح إلى عطنه الأولى به وهو العدم، وتارة يُوحي إليه الإلهام أن الشخص في خاصته، والأمم في هيئاتها، ونوع الإنسان في مجموعه، تُطالبه صورة الإبداع بأعمال شريفة، دونها إجهاد الأنفس في السعي وحملها على ما لا تهوى، ومغالبة الأهوال والغوائل، وفيما أودع الله الإنسان من القوى العالية، والخواص السامية، أكبر مساعد على ما تندفع إليه الهمة وتنبعث له العزيمة”.
ثم يتحدث عن الرفعة، وتبِعَات المَجْد، وتَكَالِيف الْعَظَمة الخالدة، وأن الأمم لا تبلغ غاية المجد إلا بجهاد المخلصين الأبطال من رجالها، ثم يقول بعد ذلك:
“ماذا يريد العانون في خِدمة الأمم أو النوع الإنساني، والمُنْفِقون لحياتهم في أعمال فادحة، يعود نفعها على مَن تجمعه معهم جامعة الأمة أو المِلَّة أو يُشاركهم في النوع؟. أليس قد جعل الله لكل شيء سببًا؟. أليس من سُنَّةِ الله في عباده أن لا تتجه الإرادة البشرية إلى حركة تصدر عن المُريد إلا بعد تصور غاية تعود إلى ذاته، وبعد اليقين أو راجح الظن بأنه يستفيد الغاية من العمل؟ فإن كان الأجل يذهب في مُساورة الآلام الروحية، والعمر ينفد في مُناهدة الأوصاب البدنية، فماذا يقصدون من أعمالهم؟
إن كان يُوجد في أبناء جِلْدتهِم وذوي مِلَّتهِم مَنْ يُسَاعد حوادث الكون على إيلامهم، ومُمانعتهم في مقاصدهم، وصدهم عن السعي فيما يرجع خيره إلى أنفس المعارضين، ويثخن فيهم جراح اللوم والتقريع والشماتة والتشنيع، أو يدافعهم بالمكافحة والمُنازلة، فما الذي يبتغون من جَدِّهِم وكَدِّهِم؟. لا لذة تُجْتنَى، ولا ألم يُتَّقى، فما هذا الباعث القوي الذي غَلَبَ الأهواء، ولم يُضعفه جهدُ البلاء؟”.
ثم يدخل في صميم المُراد مِن موضوعة فيقول: “نعم أودع الله في الإنسان ميلًا أقوى من كل ميل، وهو أخص خاصة فيما يمتاز به عن غيره من الأنواع، هو حب المحمدة الحقة، وحسن الذكر من وجوه الحق. أقول هذا تفاديًا من حب المحمدة من أي وجه، حقًّا كان أم باطلًا، وطلب الثناء بالزور والغش والرياء، والظهور بمظهر الأخيار، مع تبطن سرائر الأشرار، فإن هذا من أسوأ الحلال، وإنما يعرض بعد اعْتلالِ الفْطرة وَفَسَاد الطبيعة..المحمدة هي الغذاء الروحاني، والمقوم النفساني، وكلما قرب الشخص من الكمال الإنساني تهاون بالشهوات وازدرى اللذائذ الحِسية، وقوي فيه الميل إلى المحمدة الباقية، وَبَذَلَ الوسْع فَيمَا يُفِيدُهَا مِن جلائل الأعمال؛ إن الفاضل يرى له في هذا العالم أجلين، أقصاهما الأجل المحدود، من يوم ولادته إلى نهاية العمر المُقَدَّر، والآخر أبعد من هذا نهاية، وبدايته عندما ينجم من عمله الصالح أثرٌ لمنفعة تشمل أمته، أو تعمُّ النوع الإنساني، وغاية هذا الأجل عندما يُمحى أثرُهُ من ألواح النفوس وصفحات التاريخ، فللروح الفاضلة وجودان: وجود في بدنها الخاص، ووجود في جميع الأبدان، وهو ما يكون بحلولها من كل روح مَحلَّ الكرامة والتبجيل. ولا ريب أن هذا الأجل الطويل، وهذا الوجود العريض، خير من ذلك الأجل القصير والوجود الكزِّ (المنقبض)، وحقيق بالإنسان أن يبيع ما هو أدنى بالذي هو خير”.
وبعد أن يتحدث عن الأمم إذا جَحَدَت فَضْلَ العَامِلِينَ، وأن ذلك يُؤدِّي إلى ضعف الهِمَم وَقِلة السعي في المصالح العامة، يقول: “كيف لا تكون المحمدة الحقة نِعمة على النفوس الإنسانية، يسعى لها الأعلون من بني الإنسان، وقد امتن بها على نبيه فيما يقول: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) (الشرح: 4)؟. وكيف لا تكون حقًّا تُطالب به الطبيعة، وقد سمح الله لمستحقها بالتحدُّث بنِعَمِ الأعمال الصالحات، كما سوَّغ ذلك لنبيه في قوله: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) (الضحى:11).
أظن أن في ذلك القدر من الاستشهاد بيانًا أيّ بيان؛ لأن حب الثناء طبيعة الإنسان، فالأصيل يُحبه بحق وصدق، والهزيل يرتضيه، ولو من طريق البُهْتان.