حث النبي – ﷺ – على التداوي من الأمراض ، وأمر به ، وقد يكون التداوي واجبا إذا ترتب على عدمه هلاك النفس ، وقد يكون مندوبا إذا غلب على الظن أن العلاج به سيكون سببا في الشفاء بإذن الله تعالى ، كما أنه لا ينافي التوكل على الله تعالى .
أقوال الفقهاء في حكم التداوي:
يقول الأستاذ الدكتور علي محيي الدين القره داغي :
اختلف الفقهاء في حكم العلاج على عدة أقوال، والذي تشهد له الأدلة الشرعية ومقاصد الشريعة هو أن الأحكام التكليفية الخمسة (الوجوب، والندب، والتحريم، والكراهة، والإباحة) ترد عليه.
أولا: القول بالوجوب :
فالعلاج واجب إذا ترتب على عدم العلاج هلاك النفس بشهادة الأطباء العدول؛ لأن الحفاظ على النفس من الضروريات الخمس التي يجب الحفاظ عليها، وكذلك يجب العلاج في حالة كون المرض معديًّا، مثل: مرض السل، والدفتريا، والتيفود، والكوليرا، وغيرها من الأوبئة وترتب مثل هذا الحكم لوجود مجموعة من النصوص الدالة على دفع الضرر، ومنها قول النبي –ﷺ-: “لا ضرر ولا ضرار” (رواه أحمد ومالك وابن ماجة).
بل إن بعض الفقهاء ومنهم جماعة من الشافعية وبعض الحنابلة يذهبون إلى أن العلاج واجب مطلقاً، وقيَّده بعضهم بأن يُظَن نفعه.
وقد ذهب الحنفية إلى وجوبه إن كان السبب المزيل للمرض مقطوعاً به، وذلك كما أن شرْب الماء واجب لدفع ضرر العطش، وأكْل الخبز لدفع ضرر الجوع، وتركهما محرّم عند خوف الموت، وهكذا الأمر بالنسبة لعموم العلاج والتداوي. جاء في الفتاوى الهندية: “اعلم بأن الأسباب المزيلة للضرر تنقسم إلى مقطوع به كالماء المزيل لضرر العطش، والخبز المزيل لضرر الجوع… أما المقطوع به فليس تركه من التوكل، بل تركه حرام عند خوف الموت.
وقد استدل هؤلاء الفقهاء بالأحاديث الآمرة بالتداوي، مثل حديث أسامة بن شريك قال: “أتيت النبي – ﷺ- وأصحابه كأنما على رؤوسهم الطير، فسلَّمت، ثم قعدت، فجاء الأعراب من ههنا وههنا، فقالوا: يا رسول الله أنتداوى؟ فقال: تداووا فإن الله تعالى لم يضع داءً إلا وضع له دواء غير داء واحد الهرم” (رواه أبو داود والترمذي والنسائي)، ولحديث أبي الدرداء قال: قال رسول الله –ﷺ-: “إن الله أنـزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا، ولا تتداووا بحرام” (رواه أبو داود).
فإذا كان العلاج واجباً فيكون تركه حراماً كما في حالة كون المرض معديًّا، أو كون الشخص مهددًّا بالموت، أو بضرر كبير إذا لم يتم العلاج.
ثانيا : القول بالاستحباب :
ويرون التداوي مستحبًا إذا كان التداوي بما يمكن الاستشفاء به حسب الظن وليس اليقين، وذلك اقتداءً بتداوي الرسول -ﷺ- في قوله وفعله. وفيما عدا ذلك فهو مباح مشروع، وهذا رأي جمهور الفقهاء . قال حجة الإسلام أبو حامد الغزالي: “اعلم أن الذين تداووا من السلف لا ينحصرون، ولكن قد ترك التداوي أيضاً جماعة من الأكابر” ثم ذكر بأن الرسول -ﷺ- تداوى، ولو كان نقصانًا لتركه، إذ لا يكون حال غيره في التوكل أكمل من حاله.
هل التداوي ينافي التوكل:
الرد على من قال إن التداوي يخالف التوكل :
وقد ردّ الغزالي على من قال بأن التداوي يخالف التوكل بأن ذلك نوع من المغالطة؛ لأن الرسول –ﷺ- تداوى وهو سيد المتوكلين، وأمر به في أكثر من حديث، ثم إن التداوي مثل استعمال الماء للعطشان، والأكل لدفع الجوع فلا فرق بين هذه الدرجات، فإن جميع ذلك أسباب رتبها مسبب الأسباب سبحانه وتعالى، وأجرى بها سنـته، ويدل على أن ذلك ليس من شرط التوكل ما روي عن عمر –رضي الله عنه وعن الصحابة- في قصة الطاعون، فإنهم لما قصدوا الشام وانتهوا إلى الجابية بلغهم الخبر أن به موتاً عظيماً ووباءً ذريعاً، فافترق الناس فرقتين، فقال بعضهم لا ندخل على الوباء فنلقي بأيدينا إلى التهلكة، وقالت طائفة أخرى: بل ندخل، ونتوكل على الله، ولا نهرب من قدر الله تعالى، ولا نفرّ من الموت كمن قال الله تعالى في حقهم: “أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ…” (البقرة: 243)، فرجعوا إلى عمر فسألوه عن رأيه، فقال: نرجع، ولا ندخل على الوباء، فقال له المخالفون لرأيه: أنفرّ من قدر الله تعالى؟ قال عمر: نعم، نفرُّ من قدر الله تعالى إلى قدر الله تعالى.. فلما أصبحوا جاء عبد الرحمن فسأله عمر عن ذلك، فقال: عندي فيه يا أمير المؤمنين شيء سمعته من رسول الله -ﷺ- يقول: “إذا سمعتم به -أي بالطاعون- بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه” (متفق عليه).
التداوي والأخذ بالأسباب:
فالعلاج سبب من الأسباب يؤخذ به كما يؤخذ بالأسباب في كل الأمور الأخرى، بل إن تركها إذا ترتب عليه ضرر يكون محرماً. وقد أكد هذه المعاني ابن القيّم في كتابه: الطب النبوي، وبيّن أن العلاج سبب مشروع، وقدر من قدر الله تعالى، وسنة من سننه.
ويكون التداوي مباحاً جائزاً تركه، إذا كان العلاج لا يجدي نفعاً وأن الدواء لا ينفعه، حيث ذكر الغزالي خمسة أسباب لترك التداوي منها أن تكون العلة مزمنة، والدواء الذي يؤمر به موهوم النفع .