البلاغة النبوية -التي صحت عنه – ﷺ – طويلها وقصيرها تمثل ذروة البيان البشري، والبلاغة الإنسانية مبنى ومعنى، مضمونًا وشكلاً، فكرة وأسلوبًا، فقد حوت من جوامع العلم، وجواهر الحكم، وحقائق المعرفة، وروائع التشريع، وبدائع التوجيه، وغرائب الأمثال، ونوادر التشبيه، ما لم يحوه كلام بليغ ولا حكيم، مع سهولة فائقة، وعذوبة رائعة، وحيوية بالغة. جعلت في الكلمات روحًا يسري، كما تسري العصارة في الأغصان الحية. وهي أجدر أن توصف بأنها تنزيل من التنزيل، وقبس من نور الذكر الحكيم، وهذا ما نوه به كبار الأدباء والبلغاء في مختلف العصور.
وصف كلام النبي :.
1- يصف الجاحظ كلامه – ﷺ -في “البيان والتبيين” (جـ 2 ص 14 – 15):.
“هو الكلام الذي قَلَّ عدد حروفه، وكثر عدد معانيه، وجَلَّ عن الصنعة، ونُزِّه عن التكلف، استعمل المبسوط في موضع البسط، والمقصور في موضع القصر، وهجر الغريب الوحشي، ورغب عن الهجين السوقي. فلم ينطق إلا عن ميراث حكمة، ولم يتكلم إلا بكلام قد حُفَّ بالعصمة، وشُدَّ بالتأييد، ويُسِّر بالتوفيق. وهذا الكلام الذي ألقى الله المحبة عليه، وغشاه بالقبول، وجمع له بين المهابة والحلاوة وبين حسن الإفهام وقلة عدد الكلام. وهو مع استغنائه عن إعادته، وقلة الحاجة إلى معاودته لم تسقط له كلمة، ولا زلت له قدم، ولا بارت له حجة، ولم يقم له خصم، ولا أفحمه خطيب، بل يبز الخطب الطوال بالكلام القصير، ولا يلتمس إسكات الخصم إلا بما يعرفه الخصم، ولا يحتج إلا بالصدق، ولا يطلب الفلج (الفلج: الفوز والظفر). إلا بالحق، ولا يستعين بالخلابة، ولا يستعمل المواربة، ولا يهمز ولا يلمز، ولا يبطء، ولا يعجل، ولا يسهب ولا يحصر، ثم لم يسمع الناس بكلام قط أعم نفعًا ولا أصدق لفظًا، ولا أعدل وزنًا، ولا أجمل مذهبًا، ولا أكرم مطلبًا، ولا أحسن موقعًا، ولا أسهل مخرجًا، ولا أفصح عن معناه، ولا أبين عن فحواه من كلامه – ﷺ -“.
2- يقول أديب العربية والإسلام في هذا العصر “مصطفى صادق الرافعي” في كتاب “إعجاز القرآن” (ص422-424): “إذا نظرت فيما صح نقله من كلام النبي – ﷺ – على جهة الصناعتين اللغوية والبيانية، رأيته في الأولى مسدد اللفظ، محكم الوضع، جزل التركيب، متناسب الأجزاء في تأليف الكلمات، فخم الجملة، واضح الصلة بين اللفظ ومعناه، واللفظ وضريبه في التأليف والنسق، ثم لا ترى فيه حرفًا مضطربًا، ولا لفظة مستدعاة معناها، أو مستكرهة عليه، ولا كلمة غيرها أتم منها أداء للمعنى وتأتيا لسره في الاستعمال، ورأيته حسن المعرض، بَيِّن الجملة، واضح التفصيل، ظاهر الحدود، جيد الوصف، متمكن المعنى، واسع الحيلة في تصريفه، بديع الإشارة، غريب اللمحة، ناصع البيان، ثم لا ترى فيه إحالة ولا استكراهًا، ولا ترى اضطرابًا ولا خطلاً ولا استعانة من عجز، ولا توسعًا من ضيق، ولا ضعفًا في وجه من الوجوه.
3- يقول الأديب اللغوي الحجة الأستاذ “محمود محمد شاكر” في مقال المقتطف (عدد يوليو سنة 1943 ص114-115): “إن اتساع الفكرة في هذا الزمن، ثم بساطتها، ثم خفاء موضع الفلسفة العالية فيها، ثم تغلغل النظرة الفلسفية إلى أعماق الحقيقة الحية في الكون: هو رأس ما يمتاز به كبار الأفذاذ والبلغاء في عصرنا هذا، وهو النوع الذي لم تعرفه العربية إلا في القليل من شعرائها، وفي القليل من شعر هؤلاء الشعراء، وليس في العربية من هذا النوع إلا معجزتان: إحداهما: القرآن، والأخرى: ما صح من حديث الرسول – ﷺ – ففيهما وحدهما تبلغ الفكرة في نفسها، ثم بتعبيرها وألفاظها، ثم بشمول معانيها لجميع الحقائق الواشجة بها، ثم بتنسمها في ألفاظها وكلماتها نسمة الروح العطر في جو السحر، ثم فوق ذلك كله البساطة واللين والتقارب والتعاطف بين هذه المعاني كلها-: نقول: يبلغ هذا كله مبلغًا يكون منه ما هو كنسيم الجنة في طيبه ونعمته، ويكون منه ما هو كحز المواسي في علائق القلوب، ويكون منه ما هو كالنار تستعر وتتلذع، ويكون منها ما ينتظم البنيان الإنساني البليغ المتفهم فيهزه هز الزلزلة أعصاب الأرض، وبهذا كان القرآن معجزًا، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وبمثله كان حديث الرسول – ﷺ – وهو ذروة البلاغة البشرية التي تتقطع دونها أعناق الرجال”. (من مقدمة الشيخ أحمد محمد شاكر لكتاب “مفتاح كنوز السنة”).