اتفق الفقهاء على أن الإجهاض بعد نفخ الروح فيه حرامٌ لأنه جنايةٌ على حيٍّ.

ولكن إذا ثبت أن بقاء الجنين يُؤدي لا محالة إلى موت الأم كان إسقاطه في تلك الحالة مُتَعَيِّنًا ؛ لأنها الأصل ، واختلفوا في إسقاطه قبل نفخ الروح فيه بين مجيز ومانع ، والاتفاق على حُرْمة الإسقاط في أي وقت من أوقات الحمل ، وللضُّرورات حُكمها كذلك في أي وقت مِن أوقاته .

حكم إسقاط الحمل بعد نفخ الروح:

يقول الشيخ محمود شلتوت -رحمه الله-:

أما إسقاط الحمل فقد تكلم في حكمه فقهاؤنا، وتمَّ اتفاقهم على أن إسقاطه بعد نفخ الروح فيه ـ وهو كما يقولون لا يكون إلا بعد أربعة أشهر ـ حرامٌ وجريمةٌ، لا يَحِلُّ لمسلمٍ أن يفعله؛ لأنه جنايةٌ على حيٍّ متكامل الخَلْق، ظاهر الحياة، قالوا: ولذلك وجبتْ في إسقاطه “الدِّيَةُ” إنْ نزل حيًّا، وعُقوبةٌ ماليَّةٌ أقلُّ منها إن نزل ميتًا.

ولكنهم قالوا: إذا ثبت من طريق مَوثوق به أن بقاءه بعد تحقُّق حياته هكذا، يُؤدي لا محالة إلى موت الأم؛ فإن الشريعة بقواعدها العامة، تأمر بارتكاب أخفِّ الضررين، فإنْ كان في بقائه موت الأم، وكان لا مُنقذ لها سوى إسقاطه، كان إسقاطه في تلك الحالة مُتَعَيِّنًا، ولا يضحي بها في سبيل إنقاذه؛ لأنها أصله، وقد استقرت حياتها ولها حظٌّ مستقل في الحياة، ولها حقوق، وعليها حقوق، وهي بعد هذا وذاك عماد الأسرة، وليس من المعقول أن نُضحي بها في سبيل الحياة لجنينٍ لم تستقلّ حياتُه، ولم يحصل على شيء من الحُقوق والواجبات.

حكم إسقاط الحمل قبل نفخ الروح:

أما إسقاطه قبل نفْخ الروح فيه ـ أي قبل تمام أربعة أشهر كما يقولون ـ فقد اختلفوا فيه، فرأْى فريق أنه جائزٌ ولا حُرمة فيه، زاعمًا أنه لا حياة فيه فلا جِناية، فلا حُرمة‍.

ورأى آخرون أنه حرامٌ أو مكروه؛ لأن فيه حياةَ النمو والإعداد. وقد عرض الإمام الغزالي لهذه المسألة، وفرَّق بينها وبين مسألة “منْع الحمل” وهذه عبارته. قال ـ بعد توجيه رأيه في منْع الحمل: “وليس هذا ـ يُريد منع الحمل ـ كالإجهاض والوأْد؛ لأن ذلك جنايةٌ على موجود حاصل، وله مراتب، وأول مراتب الوجود أن تقع النُّطفة في الرَّحِم وتُخلط بماء المرأة، وتستعد لقبول الحياة، وإفساد ذلك جنايةٌ، فإن صارت نُطفة فعلقة كانت الجناية أفْحَش، وإنْ نُفخ فيه الروح واستوت الخِلْقَةُ ازدادت الجناية تفاحُشًا، ومنتهى التفحُّش في الجناية بعد الانفصال حيًّا”.

ومن لطائف توجيهه في هذا المقام أن اختلاط ماء الرجل بماء المرأة بمثابة “الإيجاب والقبول” في الوُجود الحُكمي في العقود، فمَن أوجب ثم رجع قبل القبول لا يكون جانيًا على العقد، ومتى اتصل القبول بالإيجاب كان الرجوع بعد اتصالهما ويكون العقد بهما رفعًا للعقد وفسخًا وقطعًا، فهذا قياس ذاك.

الفقهاء يعترفون بحياة مادة التلقيح

ومن توجيه الغزالي ومَن وافقه في حُرمة إسقاط الحمْل بعد اتصال النطفة بالبُويضة، نرى أن علماء الشريعة يرون كما يرى علماء الطب ـ وإن اختلفت كلماتهم في التعبير ـ أن مادة التلقيح ذات حياة ذاتية، تخُوض بها الميدان، وتُكافح في سبيل الاتصال بهدفها: “البويضة” حتى تعتنقها، وتطرد عنها ما سواها، وقد رتَّبوا على هذه الحياة أحكامًا وآثارًا، منها الحكم بالضمان على كاسر بيْض الصيد غير المذر؛ لأنه ـ كما يقولون ـ أصل الصيد ومادته.

أما الحياة التي لا تكون إلا في الشهر الرابع فهي الحياة الظاهرة التي تُحِسُّها الأم بحركة الجنينِ، والتي عبَّر عنها الحديث بنفْخ الروح.

إسقاط الحمل قبل نفخ الروح بين الشرع والطب:

ولعل العلماء الذين نَفَوُا الحياة قبل نفْخ الروح، يُريدون هذه الحياة الظاهرة، وهم في الوقت نفسه لا يُنكرون أن المادة حيَّة، وأن حياتها تُمكنها من الاتصال بماء المرأة “البويضة”.

ومن هنا نستطيع أن نُقرر أن اختلاف العلماء في جواز الإسقاط في مبدأ الحَمْل مبنيٌّ على عدم التنبه لهذه الدقائق والإحاطة بها، أو أن حُرمة الإسقاط في تلك الحالة ليست كحُرمته عند تكامل الخلق والإحساس بالحمل، وإذنْ تكون المسألة ذات اتفاق بينهم على حُرْمة الإسقاط أي وقت من أوقات الحمل، وللضُّرورات تقديرها وحُكمها كذلك في أي وقت مِن أوقاته، وبذلك يتبيَّن بوُضوح التقاء النظرتين الشرعية والطبية.