المقرر في شريعة الإسلام أن المصائب التي تصيب الإنسان وتؤلمه من الشدة، والفقر، والمرض، والتعثر، والتعب، والنصب، والوصب، والخسائر المادية، والأوجاع الحسية، والآلام النفسية كل هذه الآلام تكفر من خطاياه سواء منها ما كان متسببا فيها، أو لم يكن له فيها سبب، فمجرد هذه الآلام مكفرات في ذاتها فإذا استقبلها العبد بالصبر والاحتساب زاد أجره، وارتفعت درجاته، بل إن المصائب قد تكون جزاء ما أصاب العبد من الذنوب لكنها كذلك تكون من المكفرات في الدنيا، وهذا من لطف الله عز وجل بالمؤمنين حيث يعجل لهم جزاء سيئاتهم في الدنيا ليكفر عنهم من خطاياهم.
جاء في شرح العقيدة الطحاوية:-
من أسباب غفران الذنوب المصائب الدنيوية، قال رسول الله ﷺ: ( ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا غم ولا هم ولا حزن حتى الشوكة يشاكها إلا كفر بها من خطاياه ) رواه مسلم.
وفي المسند أنه لما نزل قوله تعالى: “من يعمل سوءا يجز به” قال أبو بكر يا رسول الله نزلت قاصمة الظهر وأينا لم يعمل سوءا فقال يا أبا بكر الست تنصب ألست تحزن ألست يصيبك اللأواء فذلك ما تجزون به فالمصائب نفسها مكفرة، وبالصبر علها يثاب العبد ،وبالسخط يأثم، والصبر والسخط أمر آخر غير المصيبة فالمصيبة من فعل الله لا من فعل العبد، وهي جزاء من الله للعبد على ذنبه، ويكفر ذنبه بها.
وإنما يثاب المرء ويأثم على فعله، والصبر والسخط من فعله ،وإن كان الأجر قد يحصل بغير عمل من العبد بل هدية من الغير أو فضلا من الله من غير سبب قال تعالى ويؤت من لدنه أجرا عظيما فنفس المرض جزاء وكفارة لما تقدم وكثيرا ما يفهم من الأجر غفران الذنوب وليس ذلك مدلوله وإنما يكون من لازمه.انتهى.
وقال المناوي في فيض القدير:- قوله تعالى : ( من يعمل سوءا يجز به ) – دخل فيه البر والفاجر والولي والعدو والمؤمن والكافر (يجز به في الدنيا) زاد الحكيم في روايته عن ابن عمر أو الآخرة، فأما في الآية فقد أجمله، وميزت السنة بين الموطنين، وأخبر الرسول ﷺ بأن جزاءه: إما في الدنيا، أ والآخرة وليس يجمع الجزاء فيهما، ففسر في الحديث مجمل التنزيل، وبين أن المؤمن يجزى بالسوء في الدنيا كتعب وحزن، والكافر يصيبه ذلك فيها، ويعاقب أيضاً في العقبى ؛لأن المؤمن صابر محتسب مذعن لربه، والكافر ساخط على ربه مصر على عداوته فيزداد ناراً على نار.انتهى.
وقال ابن بطال- أحد شراح البخاري:-ذهب أكثر أهل التأويل إلى أن معنى الآية أن المسلم يجازى على خطاياه في الدنيا بالمصائب التي تقع له فيها فتكون كفارة لها.انتهى.
وقال الإمام ابن كثير في تفسير قوله تعالى : لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيرا):-
وقد روي أن هذه الآية لما نزلت شق ذلك على كثير من الصحابة، قال الإمام أحمد بسنده أخبرت أن أبا بكر رضي اللّه عنه قال: يا رسول اللّه كيف الفلاح بعد هذه الآية: {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجزبه} فكل سوء عملناه جُزينا به! فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : “غفر اللّه لك يا أبا بكر ألست تمرض؟ ألست تنصب؟ ألست تصيبك اللأواء”؟ قال: بلى، قال: “فهو مما تجزون به”.
وروى أبو بكر بن مردويه عن أبي بكر الصديق قال: كنت عند النبي صلى اللّه عليه وسلم فنزلت هذه الآية: {من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون اللّه ولياً ولا نصيراً} فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم “يا أبا بكر ألا أقرئك آية أنزلت عليّ” قلت: بلى يا رسول اللّه قال: فأقرأنيها ،قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه، وأينا لم يعلم السوء، وإنا لمجزيون بكل سوء عملناه؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : “أما أنت يا أبا بكر وأصحابك المؤمنون فإنكم تجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا اللّه ليس لكم ذنوب، وأما الآخرون فيجمع ذلك لهم حتى يجزوا به يوم القيامة. وقال ابن جرير: لما نزلت هذه الآية قال أبو بكر: جاءت قاصمة الظهر فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : “إنما هي المصيبات في الدنيا”.
وروى سعيد بن منصور في سننه عن عائشة: أن رجلا تلا هذه الآية: {من يعمل سوءاً يجز به} فقال: إنا لنجزي بكل ما عملناه هلكنا إذاً، فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: “نعم يجزى به المؤمن في الدنيا في نفسه في جسده فيما يؤذيه. والصحيح أن ذلك عام في جميع الأعمال لما تقدم من الأحاديث وهذا اختيار ابن جرير الطبري.. انتهى من تفسير ابن كثير بتصرف.