وقف الناس من أحاديث الفتن وأشراط الساعة مواقف متباينة : فمنهم من اتكل عليها في تغيير الواقع، ورفع عن نفسه واجب التغيير، وكل عمله أنه ينتظر أن يرى آثارها.

ومنهم من نادى بغض الطرف عنها ، وكأنها غير موجودة، وأنه لا فائدة منها، ولعل قصده من ذلك إخراج الناس من حالة الانتظار والسكون.

والحق بين هذين الطرفين، ففي هذه الأحاديث فوائد ودروس نعد منها الآتي : الابتلاء والامتحان، التحذير مما يستقبل الناس والإرشاد إلى ما يفعلون،والاستعداد لقيام الساعة، وأن هذه الأخبار من دلائل النبوة، وفيها تغذية لفضول الإنسان.

1-الابتلاء والامتحان:

إن أحاديث الملاحم وأشراط الساعة والفتن في الجملة من الغيب الذي يجب الإيمان به، والذي يثيب الله على الإيمان به العباد، وبغيره لا يكون المؤمن مؤمنا، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله) ، فلا يصح إيمان العبد إلا بالإيمان بكل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من أحكام شرعية ومغيبات ماضية وحاضرة ومستقبلية والتسليم له بالجميع، وقد اعتنت كتب العقائد بالتنبيه إلى هذه المسألة على وجه العموم، وما يتعلق بأشراط الساعة على وجه الخصوص، يقول الإمام الطحاوي مثلا: (ونؤمن بأشراط الساعة من خروج الدجال، ونزول عيسى بن مريم عليه السلام من السماء، ونؤمن بطلوع الشمس من مغربها، وخروج دابة الأرض من موضعها) ،

ويقول الإمام ابن قدامة في لمعة الاعتقاد: (ويجب الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وصح به النقل عنه فيما شاهدناه أو غاب عنا، نعلم أنه حق وصدق، وسواء في ذلك ما عقلناه وجهلناه، ولم نطلع على حقيقة معناه) إلى أن يقول: (ومن ذلك أشراط الساعة مثل خروج الدجال، ونزول عيسى بن مريم عليه السلام فيقتله، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج الدابة، وطلوع الشمس من مغربها، وأشباه ذلك مما صح به النقل).

2-التحذير مما يستقبل الناس والإرشاد إلى ما يفعلون:

المتأمل في كثير من الأخبار المتكلمة عن أشراط الساعة يجدها قد وردت بذم بعض ما سيقع من أشراط، كما جاءت بالتحذير من الدخول في مختلف الفتن الكبيرة والصغيرة، العامة والخاصة، فالمؤمن الكيس هو من اعتزل تلك الفتن وحاذر تلك الأشراط لئلا يكون من أهلها، قال البرزنجي: (وأرسله – يعني النبي صلى الله عليه وسلم- كالمسبحة والوسطى نذيرا، فأخبر عن جميع الفتن والأشراط الكائنة قبلها فاسأل به خبيرا، فبلغ وبالغ، وحذر أمته الفتن عموما والدجال خصوصا تحذيرا).
وقال: (فأكثر النبي صلى الله عليه وسلم من بيان أشراطها وأماراتها وما بين يديها من الفتن القريبة والبعيدة ، ليكون أهل كل قرن على حذر منها، متهيئين لها بالأعمال الصالحات، غير منهمكين في الشهوات واللذات). الإشاعة 25 .

وهذا المعنى ظاهر جلي في نصوص الأشراط والفتن، والتحذير والإرشاد يقع فيها باللفظ الصريح، وبالتنبيه و الإشارة، فهذه الأخبار ليست أخبارا مجردة تحكي الوقائع ولا تهدي العباد، بل الهداية فيها منصوص عليها والعمل الواجب مبين، ومن نظر في أحاديث الدجال وتتبعها وجد من الأوامر والإرشادات والاحتياطات الشيء الكثير كالأمر بالاستعاذة منه، والنأي عنه، وقراءة فواتح سورة الكهف، ودخول ناره لا جنته، وكيف تؤدى الصلاة في وقته إلى غير ذلك مما يؤكد هذا المعنى.

ومما يبين هذا المعنى كذلك كثير من أحاديث الفتن، كحديث عثمان الشحام قال: انطلقت أنا وفرقد السبخي إلى مسلم بن أبي بكرة وهو في أرضه، فدخلنا عليه فقلنا: هل سمعت أباك يحدث في الفتن حديثا، قال: نعم، سمعت أبا بكرة يحدث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنها ستكون فتن ألا ثم تكون فتنة القاعد فيها خير من الماشي فيها والماشي فيها خير من الساعي إليها ألا فإذا نزلت أو وقعت فمن كان له إبل فليلحق بإبله ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه) قال: فقال رجل: يا رسول الله أرأيت من لم يكن له إبل ولا غنم ولا أرض؟ قال: (يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر ثم لينج إن استطاع النجاة اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت)، قال: فقال رجل: يا رسول الله أرأيت إن أكرهت حتى ينطلق بي إلى أحد الصفين أو إحدى الفئتين فضربني رجل بسيفه أو يجيء سهم فيقتلني؟ قال: (يبوء بإثمه وإثمك ويكون من أصحاب النار) رواه مسلم، والأحاديث في هذا الباب كثيرة وإنما المقصود التنبيه والإشارة ليس إلا.

وقد فقه الصحابة هذا المعنى ولذا فقد كانوا حريصين على سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عما يصنعون في مختلف الفتن والأحداث التي يخبرهم بها صلى الله عليه وسلم فمن ذلك مثلا ما صح عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كيف بكم وبزمان أو يوشك أن يأتي زمان يغربل الناس فيه غربلة تبقى حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأماناتهم واختلفوا فكانوا هكذا) وشبك بين أصابعه، فقالوا: وكيف بنا يا رسول الله؟ قال: (تأخذون ما تعرفون وتذرون ما تنكرون وتقبلون على أمر خاصتكم وتذرون أمر عامتكم). رواه أبو داود.

3-الاستعداد لقيام الساعة:

إن من فائدة هذه الأخبار إشعار العباد بقرب المعاد ليستعدوا له الاستعداد المناسب إذ هو المقصود أصالة بذكر هذه النصوص، فهي أمارات وعلامات وأشراط لقيام الساعة يستدل من خلالها على قرب الساعة، قال الطيبي: (الآيات أمارات للساعة إما على قربها وإما على حصولها) ، واستشعار هذا القرب يوجب من العبد مزيد سعي وإعداد لهذا اليوم العظيم، يدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل: متى الساعة؟ فقال: (ماذا أعددت لها)؟ متفق عليه. وفي لفظ: (ويلك ما أعددت لها) ، فتأمل حسن إرشاد النبي صلى الله عليه وسلم للسائل وصرفه إلى ما يعنيه ويفيده من شأن الساعة وهي قضية الإعداد، يقول الحافظ ابن حجر: (والحكمة في تقدم الأشراط إيقاظ الغافلين، وحثهم على التوبة والاستعداد).
فأشراط الساعة مواعظ تزجر القلوب لتقبل على علام الغيوب جل وعلا، كلما وقع شرط منها فهي خطوة يخطوها الناس جميعا نحو الآخرة فالسعيد من سار في هذه الدنيا متذكرا للآخرة عاملا لها والشقي من أعرض عن أخراه قد عمي عنها ونسيها (نسوا الله فنسيهم).

4-أن هذه الأخبار من دلائل النبوة:

إن هذه الأخبار تعد من دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وصدقه، فإن المرء إذا رأى أمرا قد تحقق من تلك الأخبار ازداد إيمانه ويقينه بصدق النبي صلى الله عليه وسلم في نبوته، وأنه رسول الله حقا، ونطق بلسان الحال أو المقال صدق الله ورسوله، إذ لا يصح لبشر أن يخبر عن تلك المغيبات على هذا النحو المفصل، والمستيقن، ثم هي تتحقق مرة من بعد مرة، إلا ويكون ذلك بوحي صادق، نقل المناوي عن بعض أهل العلم قولهم: (هذا وما أشبهه من أحاديث الفتن من جملة معجزاته الاستقبالية التي أخبر أنها ستكون بعده وكانت وستكون وقد أفردها جمع بالتأليف) ، ولو أنك تتبعت أقوال أهل العلم في كون مختلف إشاراته صلى الله عليه وسلم للحوادث المستقبلية ووقوعها كما أخبر من معجزاته صلى الله عليه وسلم ومن دلائل نبوته لأعياك ذلك ولأتعبك التتبع، ولذا ترى المصنفين في دلائل النبوة -كالبيهقي مثلا- يوردون جملة من هذه الأخبار في مصنفاتهم، وفي هذه الدلائل زيادة لإيمان المؤمنين، وإقامة للحجة على الكافرين، ومن لطائف الأخبار المؤكدة لهذا المعنى ما ثبت عن طارق بن شهاب قال: كنا عند عبد الله -ابن مسعود-جلوسا فجاء رجل فقال: قد أقيمت الصلاة. فقام وقمنا معه، فلما دخلنا المسجد رأينا الناس ركوعا في مقدم المسجد فكبر وركع وركعنا، ثم مشينا وصنعنا مثل الذي صنع، فمر رجل يسرع، فقال: عليك السلام يا أبا عبد الرحمن، فقال: صدق الله ورسوله، فلما صلينا ورجعنا دخل إلى أهله جلسنا فقال بعضنا لبعض: أما سمعتم رده على الرجل صدق الله وبلغت رسله، أيكم يسأله، فقال طارق: أنا أسأله، فسأله حين خرج فذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن بين يدي الساعة تسليم الخاصة وفشو التجارة حتى تعين المرأة زوجها على التجارة وقطع الأرحام وشهادة الزور وكتمان شهادة الحق وظهور القلم). رواه أحمد، وصححه الشيخ الألباني .

5-تغذية فضول الإنسان:

إن في كيان الإنسان حاجة فطرية وفضولا يدفعه للتعرف على المستقبل وما يتعلق به من أحداث، ولذا فقد وجد في الناس في القديم والحديث من اتخذ من الكهانة والعرافة والتنجيم وغير ذلك من طرائق أهل الانحراف مطية يركبها ليشرف على شيء من المغيبات -زعم- وليسد هذه الحاجة في نفسه .
فكان من رحمة الله بعباده أن بين لهم كذب هذه الطرائق، وبرحمته بين لهم شيئا مما يستقبلون بطريق شرعي قطعي تطمئن إليه النفوس، وتسد حاجة عندهم، بل ويثابون على الإيمان به.
يقول ابن خلدون: (اعلم أن من خواص النفوس البشرية التشوق إلى عواقب أمورهم وعلم ما يحدث لهم من حياة وموت وخير وشر سيما الحوادث العامة كمعرفة ما بقي من الدنيا ومعرفة مدد الدول أو تفاوتها والتطلع إلى هذا طبيعة مجبولون عليها ولذلك تجد الكثير من الناس يتشوقون إلى الوقوف على ذلك في المنام والأخبار من الكهان لمن قصدهم بمثل ذلك من الملوك والسوقة معروفة ولقد نجد في المدن صنفا من الناس ينتحلون المعاش من ذلك لعلمهم بحرص الناس عليه فينتصبون لهم في الطرقات والدكاكين يتعرضون لمن يسألهم عنه فتغدو عليهم وتروح نسوان المدنية وصبيانها وكثير من ضعفاء العقول يستكشفون عواقب أمرهم في الكسب والجاه والمعاش والمعاشرة والعداوة وأمثال ذلك ما بين خط في الرمل ويسمونه المندل وهو من المنكرات الفاشية في الأمصار لما تقرر في الشريعة من ذم ذلك وإن البشر محجوبون عن الغيب خلا من أطلعه الله عليه من عنده في نوم أو ولاية وأكثر ما يعتني بذلك ويتطلع إليه الأمراء والملوك في آماد دولتهم ولذلك انصرفت العناية من أهل العلم إليه وكل أمة من الأمم يوجد لهم كلام من كاهن أو منجم أو ولي في مثل ذلك من ملك يرتقبونه أو دولة يحدثون أنفسهم بها وما يحدث لهم من الحرب والملاحم ومدة بقاء الدولة وعدد الملوك فيها والتعرض لأسمائهم ويسمى مثل ذلك الحدثان وكان في العرب الكهان والعرافون يرجعون إليهم في ذلك وقد أخبروا بما سيكون العرب من الملك والدولة)

لكنه جل وعلا فتح لهم من هذا الباب ما يكون نافعا لهم في دينهم ودنياهم، ولا يدخل عليهم ضررا ولا يشغلهم عن دورهم الأساس ، جاء في مفتاح دار السعادة: (ولحكمة جليلة ضرب الله دون هذا العلم بالأسداد، وطوى حقائقه عن أكثر العباد، وذلك أن العلم بما سيكون ويحدث ويستقبل علم حلو عند النفس، وله موقع عند العقل، فلا أحد إلا وهو يتمنى أن يعلم الغيب، ويطلع عليه ويدرك ما سوف يكون في غد، ويجد سبيلا إليه ولو ذلل السبيل إلى هذا الفن لرأيت الناس يهرعون إليه، ولا يؤثرون شيئا آخر عليه، لحلاوة هذا العلم عند الروح ولصوقه بالنفس وغرام كل أحد به، وفتنة كل إنسان فيه، فبنعمة من الله لم يفتح هذا الباب، ولم يكشف دونه الغطاء، حتى يرتقي كل أحد روضه ويلزم حده، ويرغب فيما هو أجدى عليه وأنفع له إما عاجلا وإما آجلا فطوى الله عن الخلق حقائق الغيب ونشر لهم نبذا منه وشيئا يسيرا يتعللون به، ليكون هذا العلم محروصا عليه، كسائر العلوم ولا يكون مانعا من غيره).

انتهى مختصرا من كتاب معالم ومنارات في تنزيل أحاديث الفـتن والملاحم وأشراط الساعة على الوقائع والحوادث، للباحث عبدالله بن صالح العجيري.