هذا الكلام قديم وذكرته بعض كتب التفسير ونُسِبَ إلى عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ يقول القرطبي في تفسيره “ج 20 ص 251” زعم ابن مسعود أنهما ـ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق وَقُلْ أعُوذُ بِرَبِّ النَّاس دُعاء تَعَوَّذَ به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين سحرته اليهود، وليستا من القرآن. خالف به الإجماع من الصحابة وأهل البيت.
وهذا الكلام يعني أن المُعَوِّذَتَيْنِ من القرآن، والدليل عليه هو الإجماع من الصحابة وأهل البيت، ثم ذكر القرطبي مُبررات لقول ابن مسعود، فذكر أن ابن قتيبة قال: لم يكتب عبد الله بن مسعود في مُصحفه المُعَوِّذَتَيْنِ؛ لأنه كان يسمع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعوِّذ الحسن والحسين ـ رضي الله عنهما ـ بهما، فقدَّر أنهما بمنزلة: أُعِيذكُمَا بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامة مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّة وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّة.

ومن المعلوم أن المصحف الرسمي المُعَوَّل عليه هو ما كان يُمليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على كُتَّاب الوحي، وكان بعض الصحابة يكتب لنفسه ما نزل من القرآن في مصحف خاص كابن مسعود، وقد تُكْتَب فيه تعليقات وتوضيحات وهوامش يراها صاحب المصحف هامة عنده، وعلى فرض أن ابن مسعود لم يكتبهما في مُصْحفه فليس ذلك دليلاً على أنهما ليستا من القرآن الكريم، ومن المعلوم أن عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ عندما جمع المصحف تحت إشراف لجنة مُخْتصة، ونَسَخَ منه عِدة نُسَخٍ وأرسل بعضها إلى الأمصار لتكون إمامًا للناس ـ أَمَرَ بإحراقِ كلِّ مَا عَدا المُصحف الَّذِي جمعه حتى يكون المصحف الرسمي واحدًا لا خلاف فيه.

وأبو بكر الأنباري لا يرضى قول ابن قتيبة فيما نُسب إلى ابن مسعود ويُؤكِّد: أن المُعَوِّذتين من كلام رب العالمين المُعجز لجميع المخلوقين، وأن “أُعيذكما بكلمات الله التامة” واضح أنه من قوْل البشر، وكلام الله الخالق الذي هو مُعجزة لخاتم الأنبياء محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحُجَّة باقية على الكافرين ـ لا يلتبس بكلام الآدميين على مثل عبد الله بن مسعود العالِم باللغة وأفانين الكلام.

ثم يذكر القُرطبي أن ترك عبد الله بن مسعود لكتابتهما سببه كما قال البعض أنه أَمِنَ عليهما من النسيان، كما أسقط فاتحة الكتاب من مُصحفه لذلك. مع أنه حافظ مُتقن، ولكن هذا التعليل غير مُسَلَّم؛ لأنه كتب: إذا جاء نصر الله والفتح، إنَّا أعطيناك الكوثر، وقل هو الله أحد، وهُنَّ كالمُعَوِّذَتين في عدم الطول وفي سُرعة الحِفظ، ونسيانهن مأمون.

وذكر ابن كثير في تفسيره عِدة روايات ثبتت أن المُعوذتين من القرآن وأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يقرأ بهما في الصلاة ويرغِّبُ في قراءتهما لما لهما من الثواب العظيم، وأكثر هذه الروايات في مُسند أحمد وفي سُنن النَّسائي. وروى مسلم في صحيحه عن عُقبة بن عامر أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : “أَلَمْ تر آياتٍ أُنزِلت هذه الليلة لم يُر مثلهن قط، قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس”.كما جاء في تفسير ابن كثير أن البخاري روى عن زِرِّ بن حبيش أنه سأل أُبي بن كعب: يا أبا المُنذر إن أخاك ابن مسعود يقول كذا وكذا فقال: إنِّي سألت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: قيل لي فقلت: فنحن نقول كما قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والحافظ ابن حجر ذكر كثيرًا مما تقدم يؤكد الإجماع على أن المعوذتين من كلام الله تعالى وقرآنه الكريم “ج 8 ص 615”.

يُؤْخَذ من هذا الكلام أن المُعَوِّذتين من كلام الله ومن سوَر المُصحف الشريف، وعدم كتابة ابن مسعود لهما لا يلزم منه أنهما ليستا من القرآن، بصرف النظر عما جاء من تعليلٍ لذلك، فالإجماع مُنْعَقِد من أيام الصحابة على أنهما من القرآن الكريم، ومُصحف عثمان هو الإمام لكلِّ المصاحف لإجماع الصحابة عليه.